توصيات الملتقى الوطني حول الجرائم الإلكترونية بالجزائرو آليات مكافحتها وفق نقاربة متعددة التخصصات
 توصيات الملتقى الدولي: الأسرة في ظلّ التغيّرات الاجتماعية- الواقع و المأمول-
دعوة للمشاركة في مؤتمر دولي بلشبونة -البرتغال
 توصيات الملتقى الدولي :الحضور العلمي لمالكية المغرب الإسلامي في بلاد الحجاز خلال العصر الوسيط
الملتقى الدولي حول فن الخط و المخطوطات الإسلامية
الملتقى الوطني حول قضايا الزكاة في الجزائر
توصيات الملتقى الوطني حول أثر القيم الإيمانية في بناء الإنسان و أساليب تعزيزها
 توصيات الملتقى الوطني حول: الأمن الفكري في المجتمع الجزائري   (الواقع والمأمول)
الحركية قصيرة المدى في الخارج
زيارة سفيرة الجمهورية التركية في الجزائر إلى المركز
الملتقى الدولي الأولى حول فن الخط و المخطوطات الإسلامية
توصيات  الملتقى الوطني  حول ترسيخ القيم لدى الاطفال في ظل التحديات الراهنة
إصدار جديد
توصيات الملتقى الوطني حول دور الاجتهاد القضائي في مراجعة قانون الأسرة الجزائري وفق مقاصد الشريعة الإسلامية
إصدارالكتاب الجماعي: دراسات في بناء المناهج التربوية المعاصرة: حقل تعليمية اللغة الإنجليزية للناطقين بغيرها
الملتقى الدولي: الرقمنة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في المصارف الإسلامية - بين التطبيق و التقييم
دعوة للمشاركة في الملتقى الوطني :  أثر القيم الإيمانية في بناء الإنسان وأساليب تعزيزها
الملتقى الدولي حول:  مناهج تحقيق المخطوط العربي بين الهواية والدراية
الملتقى الدولي :الحضور العلمي لمالكية المغرب الإسلامي في بلاد الحجاز خلال العصر الوسيط
إصدار المؤلف الجماعي الدولي: العمل المصرفي الاسلامي في الجزائر - تقييم الماضي ومتطلبات النجاح
استكتاب جماعي: دور المؤسسات الإعلامية في تعزيز قيم التسامح و التعايش السلمي
إصدار جديد: المخدرات الرقمية مقاربات متعددة التخصصات
توصيات الملتقى الوطني حول التحولات المجالية للمدن والقصور الصحراوية الجزائرية والتحديات الراهنة
توصيات الندوة الدولية الافتراضية : كيانات البحث العلمي في الوطن العربي بعد جائح
الإعلان عن صدور المجلد الثالث من الكتاب الجماعي: المدارس التعليمية في الجزائر خلال فترة الاحتلال الفرنسي 1830-1962م
فعاليات مشاركة المركز في الزيارة العلمية لدولة نيجيريا
مراسيم تسليم مهام تسيير المركز من الأستاذ الدكتور مبروك زيد الخير إلى الدكتور أحمد بن الصغير
الملتقى الوطني:التحولات المجالية للمدن والقصور الصحراوية الجزائرية والتحديات الراهنة
توصيات الملتقى الدولي عن بعد: الإساءة إلى المقدّسات الإسلامية بين سياقات حرّية التعبير و خطاب الكراهية
توصيات ملتقى التطوع اللغوي
الملتقى الأول : آفاق الصيرفة الإسلامية في الجزائر: الفرص و التحديات
الملتقى الوطني :ظاهرة جنوح الأحداث في المجتمع الجزائري-العوامل والعلاج
الملتقى الوطي الافتراضي : واقع الرعاية الصحية للنزلاء في الوسط العثابي
زيارة وفد من المعهد الوطني للدراسات السياسية والاستراتيجية النيجيري
الملتقى الدولي الأول لفن الخط و المخطوطات الإسلامية
Previous Next Play Pause
توصيات الملتقى الوطني حول الجرائم الإلكترونية بالجزائرو آليات مكافحتها وفق نقاربة متعددة التخصصات توصيات الملتقى الوطني حول الجرائم الإلكترونية بالجزائرو آليات مكافحتها وفق نقاربة متعددة التخصصات
 توصيات الملتقى الدولي: الأسرة في ظلّ التغيّرات الاجتماعية- الواقع و المأمول- توصيات الملتقى الدولي: الأسرة في ظلّ التغيّرات الاجتماعية- الواقع و المأمول-
دعوة للمشاركة في مؤتمر دولي بلشبونة -البرتغال دعوة للمشاركة في مؤتمر دولي بلشبونة -البرتغال
 توصيات الملتقى الدولي :الحضور العلمي لمالكية المغرب الإسلامي في بلاد الحجاز خلال العصر الوسيط توصيات الملتقى الدولي :الحضور العلمي لمالكية المغرب الإسلامي في بلاد الحجاز خلال العصر الوسيط
الملتقى الدولي حول فن الخط و المخطوطات الإسلامية الملتقى الدولي حول فن الخط و المخطوطات الإسلامية
الملتقى الوطني حول قضايا الزكاة في الجزائر الملتقى الوطني حول قضايا الزكاة في الجزائر
توصيات الملتقى الوطني حول أثر القيم الإيمانية في بناء الإنسان و أساليب تعزيزها توصيات الملتقى الوطني حول أثر القيم الإيمانية في بناء الإنسان و أساليب تعزيزها
 توصيات الملتقى الوطني حول: الأمن الفكري في المجتمع الجزائري   (الواقع والمأمول) توصيات الملتقى الوطني حول: الأمن الفكري في المجتمع الجزائري (الواقع والمأمول)
الحركية قصيرة المدى في الخارج الحركية قصيرة المدى في الخارج
زيارة سفيرة الجمهورية التركية في الجزائر إلى المركز زيارة سفيرة الجمهورية التركية في الجزائر إلى المركز
الملتقى الدولي الأولى حول فن الخط و المخطوطات الإسلامية الملتقى الدولي الأولى حول فن الخط و المخطوطات الإسلامية
توصيات  الملتقى الوطني  حول ترسيخ القيم لدى الاطفال في ظل التحديات الراهنة توصيات الملتقى الوطني حول ترسيخ القيم لدى الاطفال في ظل التحديات الراهنة
إصدار جديد إصدار جديد
توصيات الملتقى الوطني حول دور الاجتهاد القضائي في مراجعة قانون الأسرة الجزائري وفق مقاصد الشريعة الإسلامية توصيات الملتقى الوطني حول دور الاجتهاد القضائي في مراجعة قانون الأسرة الجزائري وفق مقاصد الشريعة الإسلامية
إصدارالكتاب الجماعي: دراسات في بناء المناهج التربوية المعاصرة: حقل تعليمية اللغة الإنجليزية للناطقين بغيرها إصدارالكتاب الجماعي: دراسات في بناء المناهج التربوية المعاصرة: حقل تعليمية اللغة الإنجليزية للناطقين بغيرها
الملتقى الدولي: الرقمنة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في المصارف الإسلامية - بين التطبيق و التقييم الملتقى الدولي: الرقمنة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في المصارف الإسلامية - بين التطبيق و التقييم
دعوة للمشاركة في الملتقى الوطني :  أثر القيم الإيمانية في بناء الإنسان وأساليب تعزيزها دعوة للمشاركة في الملتقى الوطني : أثر القيم الإيمانية في بناء الإنسان وأساليب تعزيزها
الملتقى الدولي حول:  مناهج تحقيق المخطوط العربي بين الهواية والدراية الملتقى الدولي حول: مناهج تحقيق المخطوط العربي بين الهواية والدراية
الملتقى الدولي :الحضور العلمي لمالكية المغرب الإسلامي في بلاد الحجاز خلال العصر الوسيط الملتقى الدولي :الحضور العلمي لمالكية المغرب الإسلامي في بلاد الحجاز خلال العصر الوسيط
إصدار المؤلف الجماعي الدولي: العمل المصرفي الاسلامي في الجزائر - تقييم الماضي ومتطلبات النجاح إصدار المؤلف الجماعي الدولي: العمل المصرفي الاسلامي في الجزائر - تقييم الماضي ومتطلبات النجاح
"مشاركة المركز في تظاهرة "ليالي الخط و المخطوط
استكتاب جماعي: دور المؤسسات الإعلامية في تعزيز قيم التسامح و التعايش السلمي استكتاب جماعي: دور المؤسسات الإعلامية في تعزيز قيم التسامح و التعايش السلمي
إصدار جديد: المخدرات الرقمية مقاربات متعددة التخصصات إصدار جديد: المخدرات الرقمية مقاربات متعددة التخصصات
توصيات الملتقى الوطني حول التحولات المجالية للمدن والقصور الصحراوية الجزائرية والتحديات الراهنة توصيات الملتقى الوطني حول التحولات المجالية للمدن والقصور الصحراوية الجزائرية والتحديات الراهنة
توصيات الندوة الدولية الافتراضية : كيانات البحث العلمي في الوطن العربي بعد جائح توصيات الندوة الدولية الافتراضية : كيانات البحث العلمي في الوطن العربي بعد جائح
الإعلان عن صدور المجلد الثالث من الكتاب الجماعي: المدارس التعليمية في الجزائر خلال فترة الاحتلال الفرنسي 1830-1962م الإعلان عن صدور المجلد الثالث من الكتاب الجماعي: المدارس التعليمية في الجزائر خلال فترة الاحتلال الفرنسي 1830-1962م
فعاليات مشاركة المركز في الزيارة العلمية لدولة نيجيريا فعاليات مشاركة المركز في الزيارة العلمية لدولة نيجيريا
مراسيم تسليم مهام تسيير المركز من الأستاذ الدكتور مبروك زيد الخير إلى الدكتور أحمد بن الصغير مراسيم تسليم مهام تسيير المركز من الأستاذ الدكتور مبروك زيد الخير إلى الدكتور أحمد بن الصغير
الملتقى الوطني:التحولات المجالية للمدن والقصور الصحراوية الجزائرية والتحديات الراهنة الملتقى الوطني:التحولات المجالية للمدن والقصور الصحراوية الجزائرية والتحديات الراهنة
توصيات الملتقى الدولي عن بعد: الإساءة إلى المقدّسات الإسلامية بين سياقات حرّية التعبير و خطاب الكراهية توصيات الملتقى الدولي عن بعد: الإساءة إلى المقدّسات الإسلامية بين سياقات حرّية التعبير و خطاب الكراهية
توصيات ملتقى التطوع اللغوي توصيات ملتقى التطوع اللغوي
الملتقى الأول : آفاق الصيرفة الإسلامية في الجزائر: الفرص و التحديات الملتقى الأول : آفاق الصيرفة الإسلامية في الجزائر: الفرص و التحديات
الملتقى الوطني :ظاهرة جنوح الأحداث في المجتمع الجزائري-العوامل والعلاج الملتقى الوطني :ظاهرة جنوح الأحداث في المجتمع الجزائري-العوامل والعلاج
الملتقى الوطي الافتراضي : واقع الرعاية الصحية للنزلاء في الوسط العثابي الملتقى الوطي الافتراضي : واقع الرعاية الصحية للنزلاء في الوسط العثابي
زيارة وفد من المعهد الوطني للدراسات السياسية والاستراتيجية النيجيري زيارة وفد من المعهد الوطني للدراسات السياسية والاستراتيجية النيجيري
الملتقى الدولي الأول لفن الخط و المخطوطات الإسلامية الملتقى الدولي الأول لفن الخط و المخطوطات الإسلامية
loading...

إصدار قسم الدراسات القرآنية والفقهية

loading...

إصدار قسم الفكر والعقيدة والحوار مع الغير

loading...

إصدار قسم التاريخ الثقافي للجزائر

loading...

إصدار قسم الحضارة الإسلامية

loading...

جماليات في المخطوط

مدخل تعريفي للخط العربي

     

أ. محمد بن عزوزي

مركز البحث في العلوم الاسلامية والحضارة – الأغواط

                                       

مقدمة:

يعتبر الخط العربي ملمحا حضاريا هاما في تاريخ أمة الاسلام، ولم تمر خلافة أو دولة اسلامية الا وكان لها من تجويد الكتابة نصيب، لذلك كان الاهتمام بفن الخط متصلا متنوعا، ربما بسبب موقف الدين من التصوير فكان الخط بمثابة البوتقة التي أفرغت فيها عبقرية الفنان المسلم، زيادة لاتصاله بالقرآن الكريم الذي هو كلام الله، فكانت مسحة الجلال والجمال سمة فارقة لهذا الفن، ومن خلال هذا البحث سنحاول تتبع مراحل تطور هذه ومدى اهتمام المسلمين بها.

أولا: نظريات حول نشأة الكتابة العربية

لقد تعددت النظريات التي تفسر نشأة الكتابة العربية، إلا أن الوصول إلى حقيقة مطلقة حول نشأتها كان صعب المنال من منطلق طبيعة المنطقة "شبه الجزيرة العربية"، ونزوع العرب إلى نقل أخبارهم وعلومهم-على بساطتها- مشافهة، مع انتفاء الحاجة إلى التدوين وفيما يلي سرد لأهم تلك النظريات:

نظرية التوقيف:([1])

ارتبطت هذه النظرية بالمصادر العربية القديمة، والتي تذهب إلى أن الكتابة الذي كتب بها العرب إنما هي "توقيفية" من الله عز وجل من جملة ما علمه الله لآدم فكتب به آدم الكتب المختلفة، فلما أظل الأرض الطوفان، ثم انجاب عنها الماء فأصاب كل قوم كتابهم، وكان الكتاب العربي لإسماعيل عليه السلام.

تعتبر النظرية التوقيفية من أولى نظريات أصل الكتابة العربية، إلا أنها تعاني من عدة ثغرات منها أنه لو كانت الكتابة العربية توقيفا من الله عز وجل، لاستقامت من أولها رسما واعجاما، فما كان مصدره الله عز وجل فإن النقص لا يصيبه، ولا يحتاج لاجتهاد البشر ليتطور ويتحسن عبر الزمن وهذه سمة من سمات الكتابة العربية، ثانيا أن إسماعيل –عليه السلام- أبو العرب المستعربة إنما تكلم العربية بتعلمه لها من العرب العاربة ثم تعلمها عنه بنوه، أي أن أصل اللغة العربية كان قبل إسماعيل عليه السلام، ويشير ابن خلدون في مقدمته إلى صناعة الخط إنما هي جملة من الصنائع التي يختص بها الحضر دونا عن البدو الذين تتقدم عندهم الكتابة ولا يصيبونها إلا مقيمين في المدينة أو على تخومها "وعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطلب لذلك تكون جودة الخط في المدينة"([2])، لذلك فان قبيلة مثل قبيلة جرهم التي أخذ عنها إسماعيل لغته كانت تعيش حياة البادية وكل ما ينجر عنها من خشونة العيش فلا يجتمع فن وفقر لأبسط متطلبات العيش.

النظرية الجنوبية "الحميرية":

ومن بين ما شاع بين العرب أن كتابتهم مشتقة من "المسند" الحميري، دون دليل يستند إليه، ومرجع هذه النظرية إلى أن اليمن في وقت ما قد فرضت سلطانها على بعض الأمم العربية الشمالية في حكم دولتي سبأ وحِميَر في القرنين الأول والثاني قبل الميلاد فكان فرض ثقافتها على العرب حتميا، كذلك قد يكون منشأ هذا الاعتقاد، أن مؤسسي الدولة السبئية في اليمن أصلهم من إقليم الجوف في شمال نجد والحجاز، وهو الإقليم الذي كان يعرفه الأشوريون باسم "عريبــى" وكانت تحكمه ملكات من بينهن ملكة سبأ، لذا فانه لا يستبعد أن تكون هذه العلاقات السياسية وعلاقات الهجرة بين جنوبي بلاد العرب وشمالها سببا في تفشي هذا الاعتقاد، غير أن النقوش الحميرية الجنوبية المكتشفة في اليمن والنقوش العربية الأولى وجود أية علاقة بينهما([3]).

النظرية الشمالية "الحيرية"([4]):

أتى ذكر هذه النظرية من عدد من المؤرخين العرب، على رأسهم "البلاذري" و الذي في رواية له عن عباس بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن جده وعن الشرقي القطامي أن ثلاثة من "طيء" اجتمعوا في "بقة" هم مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية فتعلم منهم قوم من أهل الأنبار ثم تعلم عن هؤلاء نفر من أهل الحيرة ،وكان "بشر بن عبد الملك" الكندي أخو "الأكيدر" صاحب دومة الجندل يأتي الحيرة فيقيم بها الحين  فتعلم الخط العربي من أهلها ، ثم أتى مكة في بعض     شأنه، فرآه سفيان بن أمية بن عبد شمس، وأبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يعلمهما الخط ففعل وعلمهما الهجاء ثم أراهما الخط فكتب ثم أتى بشر و أبو قيس الطائف في تجارة يصاحبهما غيلان بن سلمة الثقفي، وكان قد تعلم الخط منهما ، فتعلم الخط فيهم نفر من أهل الطائف ثم إن بشر مضى إلى ديار مضر ورحل إلى ديار الشام تعلم فيها أناس كثر ،وهكذا عرف الخط و انتشر بتأثير الطائين الثلاثة وبشرفي العراق و الحجاز وديار مصر و الشام.

من الواضح أن هذه النظرية تحاول تفسير كيف انتقلت الكتابة من الحيرة إلى الحجاز و يستساغ أن تكون الحيرة مركزا من مراكز تعليم الكتابة في وقت ما، لكن غير المستساغ كما يقول الدكتور إبراهيم جمعة "لماذا يناط انتقال الكتابة العربية بشخصية "بشر بن عبد الملك" الكندي الذي تجعل منه الرواية جائلا كلف نفسه مشقة الانتقال إلى أرجاء مترامية من شبه الجزيرة العربية يعلم الخط وهو ذلك الارستقراطي المترف الذي من المستبعد أن يجول لهذا الغرض([5]).

ضف إلى ذلك فإن انتقال ظاهرة ثقافية كظاهرة الكتابة ليس بالسهولة التي نتمكن من خلالها تحديد من قاموا بنقلها من منطلق أن هذه الأخيرة حالها كحال أي ظاهرة اجتماعية تلقى صعوبة في انتشارها في بادئ الأمر خاصة إذا علمنا طبيعة الحالة المعيشة للعرب في شبه الجزيرة العربية التي تنزع أكثر للخشونة التي تفرضها البيئة الصحراوية حتى المناطق الحضرية وفي رواية أخرى لابن النديم فإنه يقر بأن الكتابة وصلت رحلتها من الحيرة إلى الحجاز في خواتم القرن الخامس الميلادي إلا أنه لا يذكر اسم "بشر بن عبد الملك" في روايته بل يأتي على ذكر شخصية أخرى هي "أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب" ويضيف إليها اسم "حرب بن أمية" وينسب إلى واحد منهما نقل الكتابة من الحيرة إلى الحجاز، إن هذا التضارب بين الروايتين لا يفسره إلا القول بأن رحلة الأعراب من شبه الجزيرة إلى وادي الفرات و العكس بقصد تبادل المنافع كانت سببا في انتقال الكتابة إلى الحجاز.

 النظرية الحديثة:

يكاد يكون هناك شبه اتفاق على أن العرب لم يصبوا دراية بالكتاب إلا حيث كان لهم بالمدينة اتصال وقد كان اتصال العرب بالمدينة نتيجة لانتجاعهم تلك الأطراف الغنية المحيطة بشبه الجزيرة في البحث وادي الفرات الأوسط وسوريا ونجوع النبط وحوران، في هذه التخوم خرجت بعض القبائل العربية عن طبيعتها البدوية وعرفت نوعا من الاستقرار وأخلدت إلى حياة جديدة واتخذت أساليب الحضر في كثير من طرائق المعيشة ومظاهر العمران، وكان أكثرها تحضرا ما نزل منها على تخوم الشام لطول عهدها بحضارة الرومان. وعظم شأن هذه القبائل شيئا فشيئا كما يؤكده صاحب المقدمة حين يقول"...فصار طول الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة، كضرورة تبعية الرفه للملك"([6])، فتكونت وحدات عربية سياسية أهمها الاباجرة في "أذاسا" والأرزاس في "البتراء" و"تدمر"، وعرفت مملكة هؤلاء الارزاس باسم مملكة النبط، ونشير هنا إلى أن عرب النبط لأغاروا أول أمرهم على أقاليم "آرامية" وتحضروا بحضارتها واشتقوا لأنفسهم خطا من خطوطهم كتبوا به، وان يكونوا قد احتفظوا بلغتهم العربية التي ظلوا يستعملونها في شؤونهم الخاصة وأحاديثهم اليومية.

لذلك فان هؤلاء اشتقوا خطا من الخط الآرامي وهي الكتابة التي عرفت بالكتابة النبطية، والتي مرت في ثلاث مراحل هي:

المرحلة الأولى"الآرامية" وفيها كتبوا بالحروف الآرامية التي تميل إلى التربيع، ومن سلالتها التدمرية والعبرية.

المرحلة الثانية مرحلة انتقال من الخط الآرامي المربع إلى الخط النبطي.

المرحلة الثالثة مرحلة نضوج انتهى فيها الخط النبطي إلى صورته المعروفة التي تميل إلى الاستدارة رغم ما يبدو فيه من نزوع إلى التربيع.

وقد أثبت البحث العلمي أن العرب الشماليين اشتقوا خطهم من آخر صورة من خطوط النبط، فكما استعار النبط خطهم من الآراميين فقد استعار العرب خطهم من الأنباط، والكتابة العربية في صورتها الأولى لا تبتعد كثيرا عن كتابة الأنباط.

وبالتالي فانه من المرجح أن الكتابة العربية قد وجدت سبيلها إلى بلاد العرب بسلوك أحد طريقين أولهما الطريق الدائر من "حوران" إحدى ربوع النبط إلى وادي الفرات الأوسط حيث الحيرة و الأنبار، ثم إلى دومة الجندل فالمدينة ومنها إلى مكة والطائف، والثاني طريق أقصر، من ديار النبط إلى "البتراء" إلى "العلا" فشمال الحجاز إلى المدينة ومكة.

وسواء كانت رحلة الكتابة من هذا الطريق أو ذاك، فالثابت أنها تمت بين منتصف القرن الثالث الميلادي ونهاية القرن السادس، وهو الوقت الذي تحولت فيه الكتابة العربية من صورتها النبطية إلى صورتها التي نعرفها في وقتنا الحالي.

ثانيا: القرآن الكريم والكتابة العربية

تعتبر بداية الرسالة المحمدية مرحلة من أهم المراحل في تطور الكتابة العربية، فإذا كانت الكتابة في مراحل سابقة تعبر عن حجات اجتماعية ثقافية تجسدها حياة الحضر، فإنها ببداية رسالة الإسلام أصبحت تعبر عن حاجة روحية، تدفع بالإنسان المسلم إلى نيل رضا الله عز وجل من خلال خدمة المصحف الشريف، فالقراءة والكتابة ستصبح الصبغة التي ستصطبغ بها أمة الإسلام، وقد تجلى هذا في أول آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم "اقرأ باسم ربك الذي خلق"([7])وقوله أيضا "ن والقلم وما يسطرون"([8]) وقول النبي صلى الله عليه وسلم"إن الله جميل يحب الجمال" وفيه يدخل بطريق العموم الجمال من كل شيء([9])، هذا الجمال الذي حاول الفنان المسلم تجسيده، ظهر جليا في تطور الكتابة العربية وتحولها إلى فن من أعظم الفنون التي عرفتها الإنسانية.

لقد كانت بداية تدوين الوحي منذ عهد النبوة فها هو النبي صلى الله عليه وسلم من "يتخذ الكتبة يدونون الوحي بين يديه، وتنافس الصحابة في كتابة القرآن وعدوا ذلك شرفا، وإتباعا لأوامر الله يرجون بذلك ثواب الله ويبتغون فضله ورضوانه"([10]).

تدوين القرآن في زمن النبوة:

روي عن زيد بن ثابت أنه قال "قبض النبي ولم يكن القرآن قد جمع في شيء" الا أنه قد دون كله في زمنه، فقد كان يأمر كتابه بتدوينه عند نزوله في الأكتاف والأضلاع والرقاع والعسب واللخاف*، ومن كتاب الوحي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين.

الجمع البكري:

كان تدوين الصحف وجمعها بطلب من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعد حروب الردة والتي استشهد

 فيها عدد كبير من حفظة القرآن، مخافة من ضياعه بذهاب حفظنه، فاستجاب الخليفة أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- لطلب عمر وكلف زيد بن ثابت وعمر بجمعه، ودام ذلك مدة تقل عن السنتين، وتسميته بالمصحف كانت في زمن الصديق فقد روي عن ابن شهاب أنه قال "لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر التمسوا له اسما فقال بعضهم السفر، وقال بعضهم المصحف، فان الحبشة يسمونه بالمصحف"[11]

 

الجمع العثماني:

لقد كان لاتساع رقعة الإسلام تأثيرا على قراءة القرآن بسبب دخول الأعاجم والفرس في الدين الإسلامي فلما بلغ ذلك الخليفة عثمان رضي الله عنه فأرسل إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها "أرسلي الينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك" فأرسلت إليه بالصحف، وأرسل الى زيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام، وقال للنفر القرشيين "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه على لسان قريش فإنما نزل بلسان قريش"[12] فكان الجمع العثماني جمع الناس على قراءة واحدة وحرف واحد، فان الاختلاف في القراءة والذهاب بها مذاهب شتى يوشك أن يصل الى صميم الآيات نفسها، فكان ذلك من أكبر مناقب الخلفاء، ارتضاه الصحابة وتقبله عامة المسلمين. ان نظرة التقديس التي نظر بها المسلمون للكتابة العربية لارتباطها بالقرآن الكريم سيكون لها لاحقا تأثيرا كبيرا في تبوء الكتابة العربية مكان الفن الراقي الذي لا يضاهيه فن، ونستطيع القول أن ارهاصات هذا الفن فعلا قد بدأت مع كتابة المصاحف التي أمر الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بكتابتها، فلا غرابة في أن ازدهار الكتابة العربية والتفنن في كتابة المصاحف سيسيران جنبا الى جنب عبر العصور الاسلامية اللاحقة.

ضبط الكتابة العربية بالنقط والشكل:

كان القرآن الكريم معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن بين أوجه الإعجاز لغة القرآن التي خوطب بها قوم تمكنوا من اللغة وتشربوها حتى النخاع ، فملكوا زمامها وتكلموها صحيحة والسليقة والطبع فعرفوا أن لغة القرآن لا ينبغي لبشر أو جن أن يأتوا بمثلها ولو اجتمعوا على ذلك، ولما كانت رسالة الإسلام إلى الناس كافة ، فكان اختلاط العرب بالأعاجم فظهر اللحن في اللغة العربية ومن ثم إلى القرآن الكريم

فكان في هذا الامر مدعاة الى وضع النحو الذي تصدى له ابو الاسود الدؤلي بتكليف من زياد امير العراق عام 67هــ 676م واستعان الدؤلي في ذلك بعلامات كانت عند السريان يدلون بها على الرفع والنصب والجر ، ويميزون بها بين الاسم والفعل والرف ، وكانت طريقته في شكل اواخر الكلمات ان استحضر كاتبا وامره ان يتناول المصحف ، وان يأخذ صبغا يخالف لون المداد فاذا راى الكاتب ابا الاسود الدؤلي قد فتح شفتيه على اخر حرف ، نقط نقطة واحدة فوق الحرف فيكون هذا هو الفتح ، واذا خفض شفتيه عند اخر الحرف نقط نقطة واحدة تحت الحرف ويكون هذا هو الكسر ، فاذا ضم شفتيه جعل الكاتب النقطة بين يدي الحرف وأمامه فيكون هذا هو الضم فان تبع الحرف الأخير ــــــــ نقط الكاتب نقطتين احداهما فوق الاخرى وهذا هو التنوين كانت هذه اول اضافة للغة العربية بقصد ضبطها

أما الإصلاح الثاني فالمتعارف عليه انه قد أجرى في خلافة عبد الملك بن مروان عندما كثر  التصحيف في القران ، فنبه الحجاج بن يوسف الثقفي لذلك وكان منه أن كلف كتابه بوضع علامات لهذه الحروف المتشابهة في الرسم تميزها عن بعضها البعض فوضع يحي بن يعمر ونصر بن عاصم الاعجام بمعنى النقط ونقطت الحروف بنفس مداد الكتابة ، لان نقط الحرف جزء منه

أما الإصلاح الأخير فكان في العهد العباسي الأول حين قام الخليل بن احمد الفراهيدي بمهمة إبدال نقط أبي الأسود الدؤلي للدلالة على الحركات الإعرابية بجرات علوية وسفلية للدلالة الفتح والكسر وبراس واو للدلالة  على الضم الى غير ذلك من الحركات المعروفة في الكتابة في وقتنا الحالي

وغدا بعد هذا الاصطلاح ان يجمع الكاتب بين شكل الكتاب ونقطه بلون واحد دون لبس

وقد تعارضت آراء العرب حول هذا الاعجام بين مؤيد ومعارض ومن طريف القول أبيات رد بها أبو نواس على كتاب جاءه وقد شكله كاتبه فقال:

يا كاتبا   كتب الغداة يسبني      من ذا يطيق يراعه الكتاب

لم ترض بالإعجام حين كتبته    حتى شكلت عليه بالإعراب

أحسست سوء الفهم حين فعلته     أم لم تثق بي في قراة كتاب

لو كنت قطعت الحروف فهمتها  من غير وصلكهن بالأنساب

ومنهم من رغب في الشكل فقال أشكلوا قرائن الآداب ، لئلا تند عن الصواب، وقولهم اعجام الكتب يمنع استعجامها وشكلها يصون عن إشكالها.

وهنا يتم إسدال الستار عن المرحلة الأولى من تجويد فن الخط  من خلال ضبطه رسما واعجاما وشكلا، أي أن الصورة النهائية للكتابة العربية  قد رست قواعدها من حيث الهيكل إن صح لنا استعمال هذا المصطلح بمعنى آخر إن اللبنات الأساسية قد وضعت مكانها، لتفتح مرحلة جديدة هي مرحلة التجويد الفني الجمالي الذي سطر من خلاله خطاطون لوحات فنية غاية في الجمال تجعل من ملوك أوربا يسحرون بجمالها فيتخذونها زخرفة لقصورهم وملابسهم  وحتى كنائسهم.

هنا لابد من الإشارة إلى ثلاثة خطاطين أصيلين في إبداعهم الذي كان نقطة بداية لجميع الخطاطين الذين جاؤا بعدهم.

ثالثا: المؤسسون الأوائل

ابن مقلة: الوزير الخطاط  272هـ 886 م- 328هـ 940 م

ولد أبو على محمد بن علي بن الحسين ابن مقلة لتسع بقين من شوال سنة اثنتين وسبعين ومائتين ببغداد، وقد ولي أول أمره بعض أعمال فارس، ثم وزيرا للمقتدر سنة ست عشرة وثلاثمائة، ثم قبض عليه المقتدر وصادره وحبسه عامين، ثم وزيرا بعد ذلك للقاهر والراضي([13]) وتنقلت به أحوال ومحن أدت إلى قطع يده ، و من نكد الدهر أن مثل تلك اليد النفيسة تقطع.

يقول ثابت بن سنان " أمرني  الراضي بالله بالدخول إلى بن مقلة آخر اليوم الذي قطعت فيه يده فدخلت إليه فعالجته و سألني عن خبر ابنه الحسين فعرفته خبر سلامته فسكن إلى ذلك غاية السكون ، ثم ناح على نفسه وبكى على يده وقال : يد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات ،وكتبت بها القرآن دفعتين تقطع كما أيدي اللصوص ؟"

ولم يتوقفوا عند هذا الحد بل قطعوا لسانه، وأصابه في سجنه ذرب ، ولم يكن له من يعالجه ويخدمه ولحقه شقاء شديد إلى أن مات .

أم عن خطه فقد كان يكتب خطا جيدا حتى  بعد قطع يده أما بيده اليسرى أو بشد قلم إلى ساعده الأيمن ، وروى القلقشندي قوله عن أبن مقلة وأخيه أبي عبد الله وولدا طريقة اختراعاها وكتب في زمانهما جماعة فلم يقاربوهما ، وكان الكمال للوزير أبي علي فهو الذي هندس الحروف ، وأجاد تحريرها وعنه انتشر الخط في مشارق الأرض و مغاربها وقد شهد له غير العرب في تفرده بحسن الخط وجودته ، ويقول الثعالبي " أنه كتب كتاب هدفه بين المسلمين و الروم بخطه فهو إلى اليوم في كنيسة قسطنطينية يزورونه في الأعياد ويعجبون من فرط حسنه و كونه غاية في فنه "

وقد أنشد أبو الحسين ابن طفيل بن عطية قائلا " *

خط بن مقلة من أرعاه مقلته              ودت جوراحه لو أنها مقل

ولعل أبلغ مدح قيل فيه ما سمعه التوحيدي حين سأل أبا عبد الله بن زنجي : ما تقول في خط بن مقلة قال: ذاك نبي فيه أفرغ الخط في يده كما أوحي إلى النحل في تسديس بيوته.

ابن البواب: الخطاط  الواعظ 391/1000م

 هو أبو الحسن علي ابن هلال المعروف بابن البواب كان أول عهده مزوقا يصور الدور ، ثم صور الكتب ثم تعلم الكتاب فبز فيه أقرانه ، وكان يعظ بجامع المنصور وكان أستاذه في الخط محمد أسد ن وقد كان ابن النواب على ثقافة واسعة فقد قرأ القران وحفظه ، وسمع الحديث وتفقه في الدين و درس العربية فأجاد النثر ونظم الشعر ، وقد كان انتسابه إلى لقب أبيه سبة له عند حاسديه وكان يعير به ، ولكن ذلك لم يمنعه من اكتساب الفضائل و التفوق في مجال الآداب و الفنون فقد كان ذا أثر بعيد في فن الخط وشهرة واسعة في عصره وذكر حسن بعد وفاته ، وإذا كان ابن مقلة قد هندس الخطوط اللينة ووضع قواعدها ، ونسبها الجمالية ، فإن ابن البواب بعده قد كسى هياكل الخطوط حللها الجميلة ، وقلدها حليها الغالية ، فترقت الكتابة منذ عصره إلى مراتب الكمال وجمعت بين توازن الوضع والشكل الذي سبق أن أتى به أبن مقلة ، وحسن التنسيق و التجميل التي تعهد بها الكتابة أبن البواب

 

 

ياقوت المستعصمي الخطاط الأديب 685/1286

هو جمال الدين المستعصي الكاتب الأديب البغدادي آخر من انتهت إليه رياسة الخط كان يكتب على طريقة ابن البواب وهو من مماليك المستعصي أمير المؤمين

لقد ظهر ياقوت بعد الستمائة هجرية 1203م يرجع بعضهم نسبة إلى أماسيا في آسيا الصغرى، ويقول بعضهم أنه كون نفسه بتقليد خطوط ابن البواب وذكر أنه نسخ القرآن الكريم ألف مرة ولقب بقبلة الكتاب وقد خلد ذكره القطة العلم المحرفة التي ابتدعها والتي لم تتغير حتى الآن ، يقول عنه الشيخ عبد القادر  إن في يده سرا من أسرار الله * توفي عن أربع وثمانين عاما ودفن في المسجد الذي زينه بخطوطه و اللوحات التي خطها بيده. 

الأتراك والوصول بفن الخط إلى القمة:

إذا كان العصر العباسي عصر ازدهار في شتى الآداب و العلوم و الفنون، التي جعلت من اللغة العربية لغة علم لم يتنافس على إتقانها العرب وحسب بل تنافس في إتقانها ملوك أوروبا واستأثروا بها دون عن عامة الناس، فكانت مظهرا من مظاهر الثقافة و العلم، ونستطيع القول أن التطور البطيء لفن الخط حتى نهاية العصر العباسي قد يعزى إلى تعدد الفنون و الآداب و اشتغال بالفلسفة وعلم الكلام و العلوم الشرعية من فقه      وأصوله إلى علم حديث وتفسير إلى غير ذلك من العلوم، أي أن الخط كان فنا هاما من جملة فنون وعلوم أخرى لا تقل عنه أهمية، لذلك كان لقيام الدولة العثمانية أثرا بالغا في تطور الخط لا تضاهيه العصور السابقة فالأتراك قوم عجم لا يتقنون اللغة العربية وليس لهم بالعلوم التي ازدهرت عند العرب اتصال، غير أن تمسكهم بالدين الإسلامي وحبهم للقرآن الكريم جعلهم يعملون على تجويد كتابته العربية، التي وإن حصل لها اغتراب معنى عندهم، فلا أقل من أن لا ينفي عندهم اغتراب صورة، صورة المعنى المجردة، فعملوا على تجويد الخط أيما تجويد فظهرت عندهم أنواع الخط كالخط الديواني وخط الرقعة وجودوا خط المحقق وخط الريحان، وأبدعوا في خط الثلث وخط النسخ أيما إبداع. ويقال أن تاريخهم يحصي أكثر من ألف خطاط، من أشهرهم حمد الله الأماسي و الحافظ عثمان، ومصطفى الراقم، وإسماعيل الزهدي ومحمد سامي أفندي ، ومحمد شوقي أفندي، وهنا نشير إلى أن انجازات الخطاطين العثمانيين لابد لها من دراسة تختص بهم وحدهم قد يتم التطرق لها في بحوث قادمة إن شاء الله.

 

[1] إبراهيم جمعة: قصة الكتابة العربية، دار المعارف مصر، ط 2، مصر، ب س، ص7.

[2] ابن خلدون: المقدمة

[3] إبراهيم جمعة: مرجع سبق ذكره، ص 10.

[4] المرجع نفسه، ص

[5] المرجع نفسه، ص 13.

[6] ابن خلدون: مرجع سبق ذكره، ص304.

[7] سورة العلق/1.

[8] سورة القلم/1

[9] ابن قيم الجوزية: الفوائد، دار الهدى، عبن مليلة، الجزائر، ب س، ص 221.

[10] محمد بن سعيد شريفي: خطوط المصاحف، ص 16.

* العسب: جمع عسب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون على الطرف العريض

  اللخاف: جمع لخفة وهي الحجارة الدقاق.

[11] السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ص 57.

[12] محمد بن سعيد شريفي: مرجع سبق ذكره، ص 17.

[13] محمد بن سعيد شريفي: مرجع سبق ذكره، ص 68.

الخطاب التجديدي في فكر الإمام عبد الحميد ابن باديس

             

أ.عمراني بلخير

مركز البحث في العلوم الاسلامية والحضارة – الأغواط

         

مقدمة:

لقد كان العالم الإسلامي في مطلع القرن العشرين يئن تحت وطأة الاستعمار ويذوق أصناف الاستعباد والاستنفاد والاستبداد، ولقد بليت الجزائر بأنكى استعمار وأبشع محتل، لا يكتفي بالنهب ولا بالسلب، ولا يهدأ له بال ولا يغمض له جفن إلا حين يترك مستعمراته وقد طمست هويتها، ودُمّر بنيانها الثقافي والمعرفي، وجُهّل شعبها؛ كي لا تقوم له قائمة ولا يهتدي إلى سبيل الرشاد.

ولقد جاء ابن باديس في فترة عرف فيها العالم الاسلامي  حراكا ثقافيا وإصلاحيا فرضه واقع الاحتلال، وفرض من بين ما فرض أن يتغير التعامل مع الاستعمار من مرحلة المواجهة العسكرية إلى المواجهة الثقافية والفكرية؛ إعدادا لشعب يتحرر وطنه متى تحرر ذهنه.

إن الفكر الذي أتى به ابن باديس جاء ليجدد في مناح عدة، ففي عالم المعرفة جاء ليجدد الطرح، وفي ميدان الدعوة جاء ليجدد الوسائل، فجاء بما يتناسب وتلك المرحلة العصيبة من تاريخ الجزائر.

وفيما يلي سأبحث الخطاب التجديدي في فكر ابن باديس ضمن مبحثين: مبحث تجديد الطرح الفكري (العقيدة، الفقه، التفسير)، ومبحث تجديد وسائل الخطاب (التعليم، الصحافة، النوادي والرحلات)

المبحث الأول: تجديد الطرح الفكري.

لقد اتسم خطاب الإمام عبد الحميد ابن باديس الفكري بالتجديد وبالثورة على المناهج القديمة والتقليدية، وبتحديث طرق التعليم والتدريس وإعطاء نظرة للعلوم الإسلامية تتوافق وتغيرات العصر وظروف الواقع المعيش، وسأذكر في هذا المبحث ثلاثة جوانب من هذا التجديد كأمثلة بارزة على الفكر التجديدي لدى الشيخ الإمام.

المطلب الأول: تجديد الطرح العقدي.

اهتم الإمام عبد الحميد ابن باديس بالعقيدة، وأعطاها مكانة خاصة بحكم الظروف التي عاشها الشعب الجزائري آنذاك، فلقد حاول الاستعمار العمل على توهين عقيدة الجزائريين، وعلى تغلغل عقائد الخرافة والدجل؛ التي تجعل الشعب مستسلما للواقع، يائسا من التغيير، فاقدا للأمل في ربه. ورأى الإمام أن أولى الجوانب بالرعاية والمكانة هو الجانب العقدي، يقول رحمه الله: " وقد كانت وجهتنا الأولى في النقد الديني هي الاعتقادات، ولقد كان همنا الأول تطهير عقيدة التوحيد من أوضار الشرك القولي والفعلي والاعتقادي، فإن التوحيد هو أساس السلوك، ولذلك ابتدى بـ " إياك نعبد " قبل " اهدنا " في فاتحة القرآن الكريم "[1].

أراد الإمام ابن باديس أن يبتعد بالناس في جانب العقيدة عن علم الكلام وعن الطرح الفلسفي المغرق في مصطلحات لا تستوعبها أفهام العامة ولا تؤثر في سلوكاتهم فارتأى أنّ أسهل خطاب يحدث أثرا في النفوس هو الخطاب القرآني الذي لا يملّه سامعه، ولا يصعب على متلقّيه، ولذلك جاء في تفسيره مجالس التذكير قوله: " أمّا الإعراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المتكلمين الصعبة ذات العبارات الاصطلاحية فإنه من الهجر لكتاب الله، وتصعيب طريق العلم إلى عباده، وهم في أشد الحاجة إليه " ثم يقول: " بَسَط القرآن عقائد الإيمان كلَّها بأدلَّتها العقلية القريبة القاطعة، فهجرناها وقلنا: تلك أدلَّة سمعية لا تحصِّل اليقين، فأخذْنا في الطرائق الكلامية المعقَّدة، وإشكالاتها المتعدِّدة، واصطلاحاتها المحدثة، مِمَّا يصعِّب أمرها على الطلبة فضلًا عن العامَّة " [2].

لم يكن توجّه ابن باديس إلى تلك الطريقة في طرح العقيدة وليد لحظات تصدّره لرئاسة الجمعية وإمامة الناس وتعليمهم، بل إن الأمر كان مما يدور بخلده أيام طلبه للعلم بتونس، فقد ذكر ذلك الإمام البشير الإبراهيمي فقال: " والإمام - رضي الله عنه - كان منذ طلبه للعلم بتونس قبل ذلك - وهو في مقتبل الشباب - ينكر بذوقه ما كان يبني عليه مشايخه من تربية تلامذتهم على طريقة المتكلمين في العقائد الإسلامية، ويتمنى أن يخرجهم على الطريقة القرآنية السلفية في العقائد يوم يصبح معلما، وقد بلغه الله أمنيته: فأخرج للأمة الجزائرية أجيالا على هذه الطريقة السلفية قاموا بحمل الأمانة من بعده، ووراءهم أجيال أخرى من العوام الذين سعدوا بحضور دروسه ومجالسه العلمية "[3]

ولذلك كان منهج ابن باديس مرتكزا على ربط العقيدة بتفسيره للقرآن فكان يذكر الآيات والأحاديث قبل أن يستخرج منها العقائد ويسهّل على الناس فهم كتاب ربّهم، فحذا علماء الجمعية حذو الإمام في منهجه واتبعوا طريقته في طرح العقيدة فآتت أكلها، وأثمرت تغييرا في الناس تبين بعد حين. يقول الشيخ البشير الإبراهيمي مبرزا هذا المنهج في الجمعية: " فمن مبادئها التي عملت لها بالفعل لزوم الرجوع إلى القرآن في كل شيء لا سيما ما يتعلق بتوحيد الله، فإن الطريقة المثلى هي الاستدلال على وجود الله وصفاته وما يرجع إلى الغيبيات لا يكون إلا بالقرآن. لأن المؤمن إذا استند في توحيد الله وإثبات ما ثبت له ونفي ما انتفى عنه لا يكون إلا بآية قرآنية محكمة، فالمؤمن إذا سوّلت له المخالفة في شأن من أمور الآخرة، أو صفات الله فإنها لا تسوّل له مخالفة القرآن.

وقد سلك علماء الجمعية في دروسهم الدينية كلها، وخطبهم الجُمَعيّة طريقة ابن باديس فرجع سلطان القرآن على النفوس "[1]

المطلب الثاني: تجديد الطرح الفقهي.

لم يكن الشيخ عبد الحميد ابن باديس مستاء فقط من الطرح التقليدي للعقيدة بل تعدّاه إلى تجديد الطرح الفقهي بتغيير مناهج التدريس ومحتواها وربطها بالأدلة التي بنيت عليها حتى يكون للحكم الفقهي قوته، ويكون للفتوى أساسها الذي  تستند إليه، فانتقد الإمام طريقة التعليم في جامع الزيتونة الذي كان طالبا فيه مستنكرا ألا يكون للطالب أي اطلاع على منزلة القرآن في الفقه ولا على منزلة السنة في ذلك فقال: " ... نحن اليوم وقبل اليوم منذ قرون وقرون؟ فقد حصلنا على شهادة العالمية من جامع الزيتونة ونحن لم ندرس آية واحدة من كتاب الله ولم يكن عندنا أي شوق أو أدنى رغبة في ذلك، ومن أين يكون لنا هذا ونحن لم نسمع من شيوخنا يوما منزلة القرآن من تعلم الدين والتفقه فيه ولا منزلة السنة النبوية من ذلك. هذا جامع الزيتونة فدع عنك الحديث عن غيره مما هو دونه بعديد المراحل "[2].

من أجل ذلك أراد ابن باديس أن ينقل أفكاره ونظرته لتجديد تدريس الفقه إلى مدارس جمعية العلماء المسلمين، فاحتوت مناهجها على مواد متنوعة أدخل فيها حتى علوم العصر، والفقه المقارن، فكانت المواد المقررة كالآتي:

" ( التفسير، الحديث، الفقه، الفرائض، العقائد، المواعظ، التجويد، الأصول، المنطق، النحو، الصرف، البلاغة، الأدب، محفوظات ومطالعات، دراسة الإنشاء، الحساب، الجغرافية، التاريخ)

في الجانب الفقهي (الموطأ، أقرب المسالك، الرسالة، ابن عاشر، البزدوي، المفتاح، التنقيح، المكّودي، القطر، الأجرومية ...)"[3]. والملاحظ على هذه المواد هو اعتمادها المذهب المالكي كمرجعية أساسية تماشيا والمذهب السائد في المغرب العربي إذ حافظ الإمام على المرجعية المالكية لكنه لم يجمد عليها ولذلك كان من توصياته فيما يجب أن يتلقّاه المتخصصون في الفتوى والقضاء الشرعي أن يتوسع المتخصص في فقه المذاهب الأخرى حتى يكون أُفُقُه أوسع وصدره أرحب، فقال: " ... فيتوسع لهم في فقه المذهب ثم في الفقه العام، وتكون (بداية المجتهد) من الكتب التي يدرسونها، ويدرسون آيات الأحكام وأحاديث الأحكام، ويدرسون علم التوثيق، ويتوسعون في علم الفرائض والحساب، ويطلعون على مدارك المذاهب حتى يكونوا فقهاء إسلاميين ينظرون إلى الدنيا من مرآة الإسلام الواسعة، لا من عين المذهب الضيقة "[4]. وكذلك أوصى ابن باديس المفتين أن يأصّلوا لكلامهم بالكتاب والسنة ليكون الناس على ارتباط بكلام ربهم وسنة نبيّهم، وليكون للفتوى أثرها في نفس المستفتي، قال رحمه الله: " ومما ينبغي لأهل العلم أيضاً- إذا أفتوا أو أرشدوا- أن يذكروا أدلة القرآن والسنة لفتاويهم ومواعظهم ليقربوا المسلمين إلى أصل دينهم، ويذيقهم حلاوته، ويعرفوهم منزلته، ويجعلوه منهم دائماً على ذكر، وينيلوهم العلم والحكمة من قريب، ويكون لفتاواهم ومواعظهم رسوخ في القلوب وأثر في النفوس "[5].

المطلب الثالث: تجديد التفسير:

الملاحظ لمنهج ابن باديس في جانب الطرح الفكري يجده قد ربط كل فكره بالقرآن الكريم والسنة النبوية فأراد أن يفهم الناس العقيدة وفق نصوص الوحيين حتى تكون أثبت في النفوس، وأراد أن يفهم الناس الفقه بدلالة الوحيين حتى يكون أوثق وأقوى حجة، ولذلك اهتم ابن باديس رحمه الله بالتفسير اهتماما كبيرا وختمه في دروسه على مدى خمس وعشرين سنة غير أنه لم يصلنا منه إلا بعض ما رواه أحد تلامذته وهو كتاب " مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير " الذي أبرز فيه منهجه في تجديد الفهم لكتاب الله تعالى وفق ما يمليه العصر والواقع. وقد كانت هذه أمنية الشيخ مذ كان طالبا في جامع الزيتونة بثها إلى شيخه محمد النخلي فأيّده وشدّ من أزره يروي ذلك الإمام بعد أن ذكر فضل الشيخ حمدان لونيسي عليه: " ... وأذكر للثاني – الشيخ محمد النخلي – كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي العلمية، وذلك أنني كنت متبرما بأساليب المفسرين وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية، وإصلاحاتهم المذهبية في كلام الله، ضيّق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن وكانت على ذهني غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال حتى في دين الله وكتاب الله، فذاكرت يوما الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرّم  والقلق، فقال لي: اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقّدة، وهذه الأقوال المختلفة وهذه الآراء المضطربة يسقط الساقط ويبق الصحيح وتسترح ... "[6].

لقد سلك في درس كتاب الله أسلوبا سلفي النزعة والمادة، عصري الأسلوب والمرمى، مستمدا من آيات القرآن وأسرارها أكثر ما هو مستمد من التفاسير وأسفارها[7].

لم يكن ابن باديس يغرق في النحو وفي مباحث اللغة إلا بالمقدار الذي يحتاجه للتأكيد على المعنى المراد إيصاله، فهو يأخذ من النحو بمقدار الضرورة بحيث يكون في تناوله خدمة للمعنى الذي بصدده وذلك بدون أن يتجاوز مقدار الحاجة.[8]

يذكر ابن باديس في معرض شرحه لمنهجه في التفسير ما يؤكد نظرته الشاملة للقرآن على أنّه كتاب حياة يشمل حلّ جميع معضلات الكون ومشكلات الحياة، فيقول: " إن القرآن كتاب الدهر ومعجزته الخالدة فلا يستقل بتفسيره إلا الزمن، وكذلك كلام نبينا صلى الله عليه وسلم ... "[9] وكمثال على هذا التوجه الباديسي في التفسير يمكن أن نورد نموذجا يبين لنا طريقة فهمه لكتاب الله وأسلوبه في التفسير، فهو حين أتى إلى آية: " أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون " قال: " ولكن ليت شعري، ما الذي صرف المفسرين اللفظيين عن معنى (المصنع) اللفظي الاشتقاقي؟!

والذي أفهمه ولا أعدل عنه، هو أن المصانع جمع مصنع من الصنع، كالمعامل جمع معمل من العمل، وأنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة ويقتضيها العمران... ولا أغرب من تفسير هؤلاء المفسرين للمصانع، إلاّ تفسير بعضهم للسائحين السائحات: بالصائمين والصائمات! والحق: أن السائحين هم الرحالون والرواد للاطلاع والاكتشاف والاعتبار.

والقرآن الذي يحث على السير في الأرض والنظر في آثار الأمم الخالية حقيق بأن يحشر السائحين في زمرة العابدين والحامدين والراكعين والساجدين. فربما كانت فائدة السياحة أتم وأعم من فائدة بعض الركوع والسجود... " ثم يقول: " ولا يقولن قائل: إذا كانت المصانع ما فهمتم .. فلماذا يقبحها لهم وينكرها عليهم؟

والجواب:

فإنه لم ينكرها عليهم لذاتها، وإنما أنكر عليهم غاياتها وثمراتها، فإن المصانع التي تشيد على القسوة لا تحمد في مبدأ ولا غاية."[10].

تكتمل صورة المنهج التفسيري عند ابن باديس بالتعريج على دعوته إلى تنقية التفاسير من الاسرائيليات، ومن المغالطات التاريخية التي تدج أحيانا دون أن تمحّص أو تمرر على غربال العقل والحقيقة، فأثناء تعرضه إلى مسألة تضخيم ملك سليمان وأنه ملك مشارق الأرض ومغاربها، قال تحت عنوان (تحقيق تاريخي): " رُويت في عظم ملك سليمان روايات كثيرة ليست على شيء من الصحة، ومعظمها من الإسرائيليات الباطلة التي امتلأت بها كتب التفسير، ممّا تُلُقِّيَ من غير تثبيت ولا تمحيص من روايات كعب الأحبار ووهب بن منبّه، وروى شيئاً من ذلك الحاكم في مستدركه وصرّح الذهبي ببطلانه ومن هذه المبالغات الباطلة أنه ملك الأرض كلها مشارقها مغاربها، فهذه مملكة عظيمة بسبأ كانت مستقلة عنه ومجهولة لديه على قرب ما بين عاصمتها باليمن وعاصمته بالشام "[11].

هذه أبرز معالم التجديد الفكري عند الإمام عبد الحميد ابن باديس والتي تتسم بتجديد الفهم لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بالحفاظ على الثوابت والقطعيات، واحترام ما درجت عليه الأمة في مذهبها الفقهي، والتجديد في مجال الظنيات والمتغيرات التي يجب أن تساير العصر خاصة طرق الطرح وأساليب التدريس والنظرة إلى التراث. أما مجال الوسائل وطرق الدعوة فقد أبان الإمام عن فكر وقاد، وعن نظرة ثاقبة، وعن رؤية تجديدية فريدة، وهو ما سيتم بيانه في المبحث الثاني.

المبحث الثاني: تجديد الوسائل.

لم يقتصر التجديد في فكر ابن باديس على تجديد الطرح الفكري وفهم الكتاب والسنة بما يتناسب ومقتضيات العصر والمرحلة، بل إن ابن باديس كان " ابن عصره " كما يقول هو، إذ استغل الوسائل التي تم استحداثها ليخدم دعوته، وليصل إلى أقصى مكان في الجزائر وإلى أقصى ما يمكن أن تصله الأفكار.

كان الغرب قد عرف أنماطا جديدة من النشاط الثقافي ووسائل جديدة أبلغ أثرا من مثل الجمعيات الثقافية والنوادي والمدارس النظامية والجرائد والمجلات، ... فأراد ابن باديس رحمه الله أن يكون للجمعية هذه الوسائل لتواكب العصر ولئلا يجمد على الأساليب القديمة. ويمكن حصر وسائله الدعوية والإصلاحية في الآتي:

  • التربية والتعليم وإنشاء المدارس.
  • الخطب والدروس الدينية والمواعظ، وإنشاء المساجد الحرة.
  • البعثات العلمية للمشرق وبخاصة إلى الزيتونة والقرويين.
  • الكتابة وإنشاء الصحف والمجلات.
  • تأسيس الجمعيات الوطنية والمحلية.
  • عقد المؤتمرات والندوات والتجمعات المتخصصة والعامة.
  • مهادنة الإدارة الاستعمارية، وإنشاء العلاقات التهادنية معهم لغض الطرف عن نشاطه الديني.
  • استغلال نفوذ وثراء وجاه عائلته وبخاصة أبيه لخدمة العمل الدعوي.
  • الاعتماد على كوكبة من العلماء الأجلاء المخلصين العاملين.
  • تشجيع المبادرات الخيّرة مهما كان مصدرها.
  • ربط الصلة بالمشرق العربي لغة وروحا.
  • إنشاء النوادي الثقافية والفكرية والأدبية والرياضية والفنية والمسرحية الهادفة.
  • الدعوة الفردية والجمعية والجماهيرية.
  • الدعوة القولية والعملية والتناصحية.[12]

سأتكلم في هذا المبحث عن وسائل ثلاثة، كان لها أبلغ الأثر في وصول الجمعية إلى انتشار كبير وإلى أثر في الشعب الجزائري، وهي: التعليم، الصحافة، النوادي والرحلات.

المطلب الأول: التعليم.

اهتم ابن باديس بالتعليم اهتماما منقطع النظير، وأعطاه أولى الأولويات في عمله الإصلاحي؛ لما للتعليم من أهمّية في محو الأمية عن المجتمع ولما لانتشار العلم من أهمّية في تحرير العقول لتحرر الأوطان بتحرر الأذهان، ورأى رحمه الله أن أهم أسباب لبتقدم هو الأخذ بأسباب التعليم، يقول الإمام: " ولا أدلّ على وجود روح الحياة في الأمة وشعورها بنفسها ورغبتها في التقدم من أخذها بأسباب التعليم الذي ينشر فيها الحياة ويبعثها على العمل، ويسمو بشخصيتها في سلم الرقي الإنساني ويظهر كيانها بين الأمم "[13].

سأله مرة أحد التلاميذ: بأي شيء تحارب الاستعمار؟ فأجاب عليه الرحمة: " أنا أحارب الاستعمار لأنني أعلّم وأهذّب، ومتى انتشر التعليم والتهذيب في أرض، أجدبت على الاستعمار، وشعر في النهاية بسوء المصير "[14]

 حث ابن باديس على التعليم وإنشاء المدارس وسارعت الأمة إلى تلبية الدعوة، وبنت حوالي 170 مدرسة حرّة عربية، كان فيها ما يزيد على خمسين ألف طالب وطالبة؛ فهو لم يملك ولم ير سلاحا أقوى من تعليم المغلوبين المستضعفين يقودهم إلى النصر المبين.[15]

طبق رحمه الله في هذه المدارس منهجه الذي تبناه في طرق تدريس العلوم ورسم المناهج والمواد وفق التصور الذي اقتنع به قبلا، فآتت أكلها وأينع ثمرها وانتشرت مدارس الجمعية في الأمّة تحارب الجهل وتقاوم الاستعمار وأذنابه وتدخل فكر الإصلاح في كل بيت حتى دعاه نجاحها إلى التفكير في إنشاء جامعة إسلامية.

 " إن الطلبة الذين يدرسون بقسنطينة يمثلون جميع أنحاء الجزائر، وفي سنة 1353 - 1934 جاء بعض الطلبة من العمالة الوهرانية فكمل بهم تمثيل الجزائر كلها ويعتبر ابن باديس هؤلاء الطلبة نواة للغاية الكبرى التي يسعى إليها وهي إنشاء جامعة إسلامية أو كلية للعلوم الإسلامية "[16].

لقد اهتم ابن باديس بتعليم المرأة كما اهتم بتعليم الرجل، ورأى أن لها دورا مهمّا في الحضارة وفي النهضة بالأمة، يقول الإمام: "وسيراً على ما استفاض في تاريخ الأمة، من العالمات الكاتبات الكثيرات- علينا أن ننشر العلم بالقلم في أبنائنا وبناتنا في رجالنا ونسائنا على أساس ديننا وقوميتنا إلى أقصى ما يمكننا أن نصل إليه من العلم الذي هو تراث البشرية جمعاء، وثمار جهادها في أحقاب التاريخ المتطاولة، وبذلك نستحق أن نتبوأ منزلتنا اللائقة بنا والتي كانت لنا بين الأمم "[17]. ولا أدلّ على اهتمام الجمعية بتعليم المرأة من إدراج هذه المسألة في مؤتمرات التعليم التي كان يقيمها الإمام لتقويم المناهج وتحسين الوسائل المحققة للأهداف المرجوّة، فقد كان حريصا أشد الحرص على تطوير التعليم وإشراك المتخصصين في علوم التربية في هذه المؤتمرات إذ دعا إلى عقد مؤتمر المعلمين الأحرار في سبتمبر سنة 1356 هـ 1937 م، ومن المشكلات التي عرضت في جدول الأعمال مسألة تعليم البنت المسلمة ووسائل تحقيقه، كما عقد مؤتمر آخر سنة 1354 هـ 1935م كلف فيه بعض أعضاء الجمعية بكتابة تقارير عن مشكلات التعليم في مختلف أنحاء الجزائر. وعرضت هذه التقارير وسجّلت في " سجل مؤتمر العلماء المسلمين الجزائريين " وألقى هو نفسه تقريرا في التعليم المسجدي دعا فيه إلى تأسيس كلية إسلامية "[18]

مارس ابن باديس نوعا آخر من التعليم العام قصد به عموم الشعب وجموع الناس ألا وهو الوعظ والإرشاد في المساجد، وينبه الإمام البشير الإبراهيمي إلى أهمّية هذه الوسيلة فيقول: " الوعظ الديني هو رائد جمعية العلماء إلى نفوس الأمة، جعلته مقدمة أعمالها فمهد و استقر وذلل الصعاب، وألان الجوامح، وعليه بنت هذه الأعمال الثابتة من إصلاح العقائد و نشر التعليم... و الوعظ الديني هو الذي حركت به جمعية العلماء الهمم الراكدة، وشدت به العزائم الواهية، و اجتثت به الرذائل الموبقة، فكان هو معينها على غرس الإصلاح الديني و تثبيت جذوره، و امتداد أصوله و فروعه "[19].

"علم الأستاذ الإمام في المسجد الكبير وفي سيدي قموش وسيدي عبد المؤمن وسيدي بو معزة ومدرسة جمعية التربية والتعليم والجامع الأخضر وسيدي فتح الله وهذه المؤسسات كلها ما زالت إلى اليوم. كان التعليم في مساجد قسنطينة لا يشمل إلا الكبار، وأما الصغار فإنهم يتعلمون القرآن فقط في الكتاتيب على طريقة المغاربة التي يذكرها ابن خلدون في مقدمته، وأول عمل تربوي تعليمي سجله ابن باديس في قسنطينة كان في سنة 1332هـ فكان يعلم صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها صباحاً وعشية ثم بعد بضع سنوات أسس مع جماعة من الفضلاء المتصلين به، مكتباً للتعليم الإبتدائي وذلك في مسجد سيدي بو معزة ثم انتقل إلى بناية الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة 1917م وفي سنة 1349هـ 1930م تطور مكتب الجماعة إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية، حيث حرر ابن باديس القانون الأساسي وقدمه باسم الجمعية إلى الحكومة فصادقت عليه دون أن ترى نتائجه بتاريخ رمضان 1349هـ مارس 1931م واعترفت بالجمعية في الجريدة الرسمية وتكونت هذه الجمعية من عشرة أعضاء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس وجاء في القانون: إن مقصود الجمعية نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف الدينية، والعربية، والصنائع اليدوية، بين أبناء وبنات المسلمين"[20] .

هكذا كان يعمل الإمام على تعليم الناس صغارا وكبارابما يتناسب مع كل فئة وبما يحقق الغاية الأسمى، وهي رفع الجهل عن الناس.

المطلب الثاني: الصحافة.

مما يدلّل على أن ابن باديس كان متماشيا مع مقتضيات العصر ومجدّدا للوسائل الدعوية ومستغلا لكل طريقة تحقق أهدافه هو دخوله ميدان الصحافة من مجلات وجرائد إذ كان له قلم سيال جاد به في مقالات كثيرة رسمت معالم المنهج الباديسي وعرّفت الناس بالجمعية وغاياتها وساهمت في تواصل قيادة الجمعية بأتباعها وبمتابعيها.

لقد كان دخول ابن باديس ميدان الصحافة مبكرا أحد الأسس الأولى التي انبنت عليها الصحافة الجزائرية، إذ يقول محمد ناصر عنه" ويعد بن باديس من بناة الصحافة العربية الحديثة في الجزائر، وأحد الرجال القلائل الذين وضعوا لها أسسا متينة من الإيمان بالمبدأ، والوطنية الحقة، والنضال الصادق، والاستماتة في الصمود على الرغم مما عرفته مسيرتها من ألوان الأذى وصنوف الاضطهاد التي صبّها عليها الاستعمار الفرنسي "[21].

تأسست أوّل صحيفة للجمعية باسم " المنتقد " وافتتحها الإمام بقوله: " باسم الله ثم باسم الحق والوطن ندخل عالم الصحافة العظيم شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحملها فيه، مستهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، والمبدأ الذي نحن عليه عاملون. وها نحن نعرض على العموم مبادئها التي عقدنا العزم على السير عليها لا مقصّرين ولا متوانين، راجين أن ندرك شيئا من الغاية التي نرمي إليها بعون الله ثم بجدنا وثباتنا وإخلاصنا وإعانة إخواننا الصادقين في خدمة الوطن "[22].

وبعد صدور 18 عددا من المنتقد أغلقها الاستعمار بسبب حدتها عليه وهجومها على سياساته ولكن صدر في نفس السنة صحيفة أخرى هي " الشهاب " تحت شعار " تستطيع الظروف أن تكيفنا ولا تستطيع بإذن الله إتلافنا "[23]. وهكذا عرفت الجمعية " المنتقد " و" السنة" و"الصراط" و"الشهاب" و"البصائر" ... وكلها مجلات وصحف كانت وسيلة للتواصل مع الناس ولنشر الوعي العام.

المطلب الثالث: النوادي والرحلات.

اهتم الإمام ابتداء بالعمل الجماعي المنظّم وبإيجاد وسائل تضمن توحيد الجهود والأفكار وتصهر الطاقات في بوتقة واحدة، قال رحمه الله – وهو في معرض تفسير الآيتين 62، 63 من سورة النور  - " إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله إذا كانت لهم قوة وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبّر، وتتشاور وتتآزر، وتنهض لجلب المصلحة ودفع المضرّة ومتساندة في العمل عن فكر وعزيمة، ولهذا قرن الله تعالى في هذه الآية بين الإيمان بالله ورسوله والحديث عن الجماعة وما يتعلق بالاجتماع، فيرشدنا هذا إلى خطر أمر الاجتماع ونظامه ولزوم الحرص والمحافظة عليه كأصل لازم للقيام بمقتضيات الإيمان وحفظ عمود الإسلام"[24].

اتخذ ابن باديس وسيلة فريدة جديدة أخذها عما كان ينتشر في الأوساط الغربية ألا وهي النوادي الثقافية التي كانت ملتقى للشباب للتكوين والتعليم والترفيه وإبراز المواهب وتنمية الملكات، " والنادي عبارة عن قاعة للاحتفالات. وقاعة للصلاة، ومحل لبيع المشروبات الحلال يلتقي فيه الناس ويتبادلون الأفكار ويطرحون قضاياهم وانشغالاتهم، وكانت تبرمج فيه المحاضرات واللقاءات في حوارات مفتوحة مع بعض رجال الفكر والسياسة، وقد كان لهذه النوادي دور هام في ترقية الوعي الديني والسياسي بما كانت تقدمه من نشاطات ثقافية وفنية: المحاضرات الاجتماعية للطلبة والشبيبة، التمثيليات والمسرحيات بمناسبة الأعياد الدينية الإسلامية، كما قامت بدور مدعّم للمدارس الحرّة من خلال الإعانات التي كانت تقدّمها لها من الأرباح التي كانت تكسبها من بيعها للمشروبات الحلال "[25]. وبهذا نجد أن الإمام رحمه الله كان منفتحا على كل جديد وحريصا على استغلال أي وسيلة تنشر الثقافة والعلم وترفع الجهل عن أبناء هذا الشعب، تمهيدا لمرحلة يكون فيها للنخبة الواعية دور في تحرير الجزائر من الاحتلال.

لقد سخّر ابن باديس حياته لهذه الأمة وصرف كل وقته لها إلى درجة أنه لم يجد وقتا ليعالج نفسه مما أصابه من مرض. لم يكتف رحمه الله بالقاعات ولا المساجد ولا بالمدارس ولكنه أيضا سافر إلى ولايات الوطن منتهجا أسلوب الرحلات في الدعوة وفي نشر الفكرة ليكون قريبا من محبيه وليقرّب البعيد ويجمع الشتات ويكسب ثقة أبناء الوطن على اختلاف مشاربهم.

"كان في كل رحلة يحرص على إلقاء درس عام في الوعظ والإرشاد في مسجد المدينة التي يحل بها، يشرح فيه مبادئ دعوته، ويبسطها، ويستدل لها من الكتاب والسنة، كي يدفع عنها الشبهات التي يثيرها خصومه عن دعوته، حتى يحولوا بينها وبين عموم الشعب.

كما كان يحرص على مقابلة أعيان المدينة وزيارتهم في بيوتهم وحثهم على دعم الفكرة الاصلاحية والاهتمام بالشعب والعمل على ترقيته وتهذيبه.

وكان يحرص كذلك على زيارة رجال العلم والفكر وشيوخ الزوايا، ويجتهد معهم على تقريب الشقّة، وإزالة أسباب الخلاف ما أمكن، والتعاون فيما هو محل اتفاق بين الجميع وهكذا "[26].

خاتمة:

من خلال ما سبق ذكره يتبين لنا الفكر المستنير الذي كان يحمله ابن باديس رحمه الله تعالى، فقد حافظ على ثوابت الشعب الجزائري، وعلى أصالته، ومرجعيته الدينية، في حين لم يجمد على وسائل المتقدّمين، ولم يبق حبيس العصور الأولى، وسجين التفكير القديم. لقد أحسن ابن باديس تقدير الثوابت والمتغيّرات، وأتقن فقه الواقع، وتعامل مع الظروف المحيطة به بكل مرونة.

لقد آتت جهود ابن باديس ثمارها، وقطفت الجمعية الينْع، وقاومت الجزائر محاولات الطمس والتغريب، وخرجت من معارك الهوية منتصرة، ونالت استقلالها وتحريرها لأنها آمنت بـ " تحرير العقول قبل تحرير الحقول "[27]. ولم يكن هذا ليتأتى لولا جهود كل أبناء الجزائر البررة على اختلاف مشاربهم، والذين منهم من قضى نحبه قبل أن يرى وطنه محررا، ومنهم من انتظر وما بدّل تبديلا.

 

المصادر والمراجع:

  • محمد زرمان، جمعية العلماء الخطاب والقراءة، دار الأعلام، عمّان الأردن، ط1 1427 هـ 2006 م.
  • عبد الحميد ابن باديس، في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، جمع وترتيب توفيق محمد شاهين، محمد الصالح رمضان، علق عليه وخرّج أحاديثه: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2 1424 هـ 2003 م.
  • العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ابن باديس رواية وتعليق: محمد الصالح رمضان، دار الفتح، الشارقة، ط1 1416 هـ 1995م.
  • عبد الحميد ابن باديس، آثار ابن باديس، تحقيق: عمار طالبي، دار ومكتبة الشركة الجزائرية ، ط1 1388 هـ 1968م.
  • محمد دراجي، الإمام عبد الحميد ابن باديس السلفية والتجديد، دار قرطبة، الجزائر، ط1 1428 هـ 2007 م.
  • أحمد عيساوي، أعلام الإصلاح الإسلامي في الجزائر، دار الكتاب الحديث، ط1، القاهرة، 1433 هـ 2012 م.
  • البصائر ع 34، 03/05/1948.

 

[1]  آثار الإمام ابن باديس، وزارة الشؤون الدينية ج5/75.نقلا عن محمد زرمان، جمعية العلماء الخطاب والقراءة، دار الأعلام، عمّان الأردن، ط1 1427 هـ 2006 م ص 36. (هذا النص لم أعثر عليه في الآثار في النسخة التي اطلعت عليها  فنقلته عن هذا المرجع)

[2]  عبد الحميد ابن باديس، في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، جمع وترتيب توفيق محمد شاهين، محمد الصالح رمضان، علق عليه وخرّج أحاديثه: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2  1424 هـ 2003 م، ص 105، 173.

[3]  تقريظ كتاب العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ابن باديس رواية وتعليق: محمد الصالح رمضان، دار الفتح، الشارقة، ط1 1416 هـ 1995م، ص 15.

[1]  المرجع نفسه، ص 19.

[2] عبد الحميد ابن باديس، آثار ابن باديس، تحقيق: عمار طالبي، دار ومكتبة الشركة الجزائرية ، ط1 1388 هـ  1968م، ج3/219.

 المصدر نفسه، ج3/229.[3]

[4]  المصدر نفسه، ج3/183.

[5]  ابن باديس، في مجالس التذكير، ص 105.

[6]  تفسير ابن باديس ص 475 نقلا عن محمد دراجي، الإمام عبد الحميد ابن باديس السلفية والتجديد، دار قرطبة، الجزائر، ط1 1428 هـ 2007 م، ص 55. (هذا النص لم أعثر عليه في تفسير ابن باديس في النسخة التي اطلعت عليها فنقلته من هذا المرجع)

[7]  آثار ابن باديس، ج2/104.

[8]  عبد الرحمن سلوادي، ابن باديس مفسّرا، ص 280، نقلا عن محمد دراجي، الإمام عبد الحميد ابن باديس السلفية والتجديد، ص 40.

[9]  آثار ابن باديس، ج2/117.

[10]  ابن باديس، في مجالس التذكير، ص 494، 495..

[11]  المصدر نفسه، ص 272.

[12]  أحمد عيساوي، أعلام الإصلاح الإسلامي في الجزائر، دار الكتاب الحديث، ط1، القاهرة، 1433 هـ 2012 م ص 144، 145.

[13]  مجلة الشهاب ج1، مج12، أفريل 1936، ص1 إلى 4 الافتتاحية، نقلا عن محمد زرمان، جمعية العلماء الخطاب والقراءة، ص 69.

[14]  البصائر ع 34، 03/05/1948 م ج1/265.

[15]  ابن باديس، في مجالس التذكير، ص 11.

[16]  آثار ابن باديس ج4/117.

[17]  آثار ابن باديس، ج2/203.

[18]  آثار ابن باديس، ج1/113.

[19]  الإبراهيمي، عيون البصائر، ص 314، نقلا عن محمد زرمان جمعية العلماء الخطاب والقراءة ص 74.

[20]  آثار ابن باديس ج1/114.

[21]  محمد ناصر، المقالة الصحفية الجزائرية ص 41، نقلا عن محمد زرمان، جمعية العلماء الخطاب والقراءة ص 75.

[22]  المنتقد ع1/ 02 جويلية 1925 الافتتاحية، نقلا عن محمد زرمان، جمعية العلماء الخطاب والقراءة، ص 75.

[23]  محمد زرمان، جمعية العلماء الخطاب والقراءة، ص 76

[24]  ابن باديس، في مجالس التذكير ص 335.

[25]  محمد دراجي، الإمام عبد الحميد ابن باديس السلفية والتجديد، ص 240.

[26]  محمد دراجي، السلفية والتجديد، ص 241.

[27]  مقولة للشيخ البشير الإبراهيمي.

مفهـــوم التطــــرف وعلاقتــــه بالإرهــــــــاب

    

الجيلالي بن الطيب

مركز البحث في العلوم الاسلامية والحضارة – الأغواط

مقدمة :

تمثل ظاهرة التطرف وما يرتبط به من عنف وإرهاب وترويع وجريمة منظمة، وما يستتبعه  من خوف ورعب، وقتل وتدمير أصبح أهم سمات العالم المعاصر الذي نعيش فيه، ومن الظواهر التي شغلت الرأي العام في الآونة الأخيرة ، وكثر حولها الجدل من قبل الكثير من العلماء والمفكرين، حيث أصبحت هذه الكلمة مصطلحا شائعا على ألسنة الناس وفي وسائل الإعلام.

ويتحدث معظم مفكري الغرب عن  ظاهرة التطرف والإرهاب وكأنها ظاهرة جديدة أبصرت النور في الستينات من القرن الماضي ، وقبل هذا التاريخ كانت المجتمعات البشرية كافة تعيش في سلام ووئام، علاقاتها لا تقوم إلا على حسن الجوار وعلى احترام سيادة الدول وحقوقها وسلامة أراضيها، إلا أن هذه الظاهرة عرفتها المجتمعات البشرية قديما باعتبارها أحد أساليب العنف السياسي، لكن من يستعرض ما سرده المؤرخون حول تلك الظاهرة يؤكدون على أن بدايتها كانت من صنع اليهود الذين ناهضوا الحكم الروماني في القدس خلال الثلث الأول من القرن السابق على ميلاد السيد المسيح   (عليه السلام) عندما ظهرت خلال الفترة ما بين عامي (73 ، 66 قبل الميلاد) حركة دينية سياسية أطلق عليها اسم (حركة سيكارى) كان أعضائها من المتطرفين اليهود يتبعون أساليب غير تقليدية في مهاجمة الرومان ، وقد نجحوا في اغتيال قادتهم وهدموا قصورهم وأحرقوا الوثائق والمكاتب العامة ، وهاجموا مصادر المياه في القدس.

وقد وضعت الشريعة الإسلامية منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرنا أول تشريع قانوني متكامل يصور التطرف وما يتبعه من جرائم إرهابية ، ويضع لها شروطها وأركانها بما يكاد يتفق مع الاتجاه الحديث نحو تعريفها، حيث حددت صورتين من صور الخروج على السلطة السياسية والنظام الاجتماعي في الدولة، وهما جريمتي البغي والحرابة.

ولاشك أن التطرف والعدوان سلوك يظهر في سلوكيات كثير من البشر، ويرجع إلى عدة عوامل ودوافع تحركه ، ومن الأهمية بمكان أن نستعرض تلك العوامل والدوافع التي تؤدي إلى التطرف والعنف والإرهاب، وأن نشير في هذا الموضع إلى الارتباط الوثيق بين التطرف والإرهاب، إذ أنهما حلقتان متصلتان ، فالتطرف هو الذي يدفع صاحبه لارتكاب العامل الإرهابي ، وقد قال علماء التربية أن كل عمل لابد أن تسبقه خطوات [العلم به، الاقتناع به] ، ثم توجه الإرادة لتنفيذه ، فالسلوك بغير واقع من رأي وعقيد تخبط ، ومن هنا تأتي أهمية التعرض لمعنى التطرف ودوافعه ، و مدلول كملة إرهاب وحدود العلاقة بينهما، وهذا ما سنذكره من خلال بحثنا هذا إن شاء الله وفق الإشكاليات الآتية وهي :

ما هو مفهوم التطرف والدوافع المؤدية إليه؟ وما معنى كلمة إرهاب ومدلولها وحدود العلاقة بينهما؟ وطرق العلاج التي تحد من هذه الظاهرة ، وموقف الشريعة الإسلامية من ذلك؟

     

المبحث الأول : مفهوم التطرف ودوافعه

المطلب الأول : مفهوم التطرف

التطرف في اللغة : معناه الوقوف في الطرف بعيدا عن الوسط أو الأخذ بأحد الطرفين والميل إليه، إما للطرف الأدنى أو إلى الطرف الأقصى1، قال الشاعر:

فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمر ذميم

ويقال طرفا الدابة أي مقدمها أو مؤخرها2.

وأصله في الحسيات كالتطرف في الوقوف أو الجلوس أو السير، ثم انتقل إلى المعنويات كالتطرف في الدين أو الفكر أو السلوك3، أو هو الناصية ومنتهى كل شيء ، قال الشاعر :

كانت هي الوسط المحمى فاكتفت *** بها الحوادث حتى أصبحت طرفا

وتطرّف تعني أتى الطرف وجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط ، إذا فهو يقابل التوسط و الاعتدال4.

    

التطرف في الاصطلاح : يعني الغلو ومجاوزة الحد المقبول والتعصب لعقيدة أو فكرة أو مذهب يختص به دين، أو جماعة، أو حزب، فيوصف بالتطرف الديني والحركي والسياسي5، وينتظم في سلك التطرف التشدد والغلو والتنطع والإفراط والتفريط على حد سواء، فهو على هذا يصدق على التسبيب كما يصدق على المغالاة لأن في ذلك كله جنوحا إلى الطرف، وبعدا عن الجادة والوسطية6 التي هي سمة من سمات هذا الدين، ومبدأ من مبادئه الأساسية الثابتة ، وميزة من ميزات هذه الأمة.

والتطرف ظاهرة مرضية تؤشر على وجود خلل ما في النفس الإنسانية أو في الظروف المحيطة بها، فالنفس الإنسانية السوية بطبيعتها ترفض التطرف والتعصب والجمود ، لأن الفطرة السليمة تأبى ذلك وتنفر منه7.

ومن الناحية الاجتماعية : فالتطرف لفظ معاري يعني مخالفة الخط العام أو السوي، والذي تحدده التقاليد والأعراف والمعايير القانونية والدينية السائدة في المجتمع ، الأمر الذي يجعل مفهومه محل اختلاف بين المجتمعات، فالبيئة المرنة قد ترى المشروعية في تصرفات معينة بينما المتشددة تراها عكس ذلك.

من الناحية القانونية : يعني الخروج أو الانحراف عن الضوابط الاجتماعية أو القانونية التي تحكم سلوك الأفراد في المجتمع، وهذا الخروج بتفاوت بين فعل يستنكره المجتمع إلى فعل يشكل جريمة تقع تحت طائلة القانون.

كما أن له عدة تعريفات من الناحية الدينية نشير لبعضها فيما يلي :

  • هو الخروج عن المألوف عقديا، المصحوب بالغلو في الدين مع الانعزال عن الجماعة وتكفيرها وإباحة مواجهة الرموز الاجتماعية بالقوة.
  • هو التجاوز في الفكر أو المذهب أو العقيدة عن الحدود المتعارف عليها قبل الجماعة والتعصب لرأي واحد أو استنتاج خاطئ والمبالغة في السلوك الناتج عن هذا التعصب أو التطرف في الفكر8.

والمتطرف في الإسلام : كل من تجاوز حدود الشرع وأحكامه وآدابه وهديه ، فخرج عن الاعتدال ورأي الجماعة إلى ما يعد شاذا شرعا وعرفا9.

ومن مظاهر التطرف (التعصب للرأي ، إلزام المسلمين بما لم يفرض عليهم، عدم الاعتراف بالرأي الآخر، التشديد في غير محله، الغلظة و الخشونة، سوء الظن بالناس، عدم التسامح، النظرة التآمرية العدوانية ، المثالية).

والتطرف بمختلف أشكاله مرفوض وممقوت ، سواء كان فكريا أو سلوكيا.

     

المطلب الثاني: دوافعه

 إن أسباب التطرف بجميع أشكاله تختلف باختلاف المجتمعات تبعا لاتجاهاتها السياسية وظروفها الاقتصادية والاجتماعية، وأحوال شعوبها الدينية، وفيما يلي سنعرض أهم أسباب هذه الظاهرة بمختلف أبعادها الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحتى السلوكية من خلال العناصر التالية11:

  1. الجهل بالإسلام: وهو من الأسباب الأساسية للتطرف الفكري، والضياع الثقافي عند المسلمين، وينتج عن هذا الجهل العام بالإسلام فقدان الحاجة الفكرية والعملية التي يمكن من خلالها معالجة المشاكل والقضايا الحضارية المستجدة في عالم الإنسان.

وما يعانيه العالم الإسلامي اليوم من انقسامات فكرية حادة بين تيارات مختلفة وما ترتب عنه من مشكلات وصراعات خطيرة، مرجعه إلى الجهل بالدين ، والبعد عن التمسك بتوجيهات الإسلام12.

  1. تشويه صورة الإسلام، وعدم الاهتمام الكافي بإبراز محاسنه وأخلاقه؛ فالدين الإسلامي هو دين العدالة والكرامة والسماحة والحكمة والوسطية، وهو دين رعاية المصالح ودرئ المفاسد، وإن أفعال بعض الناس المنتسبين إلى الدين تنسب عادة إلى الدين ذاته، فإذا غلا امرؤ في دينه فشدد على نفسه وعلى الناس، وجار في الحكم على الخلق، نسب ذلك إلى دينه ، فصار فعله ذريعة للقدح في الدين ، فلابد من إظهار محاسن وأخلاقيات هذا الدين للقضاء على هذه الانحرافات الفكرية الخطيرة وتقويم سلوك الإنسان وفق مبادئ وتعاليم هذا الدين الحنيف13.
  2. نقص الثقافة الدينية في المناهج التعليمية من الابتدائي ، وحتى الجامعة في معظم البلاد الإسلامية.
  3. سوء الفهم والتفسير الخاطئ لأمور الشرع ، والافتقار إلى وجود مرجعيات دينية موثوقة14.
  4. الفراغ الفكري والتوقف عن الإبداع والإنتاج، وهو الذي يسد الحاجات المعاصرة للفكر الإنساني، وعدم الاهتمام بشؤون الثقافة والمعرفة، وصد التيارات الفكرية المادية التي غزت البلاد الإسلامية، وعدم تطوير للدراسات الفقهية والأصولية، والإبقاء على شكلها التقليدي دون أن ينظر في دراستها وتدريسها وبحوثها وموضوعاتها إلى ما يستجد من حاجات جديدة للفكر والثقافة والحياة العلمية15.
  5. ضآلة الاهتمام بالتفكير الناقد والحوار البنّاء من قبل المربين و المؤسسات التربوية والإعلامية16.
  6. فراغ الشباب وصعوبة المعيشة، وهذا يجعلهم يكرهون المجتمع ويحاولون أن يضروه بأي وسيلة ، وذلك لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها ، وكره من أساء إليها17.
  7. ضعف تعلق الشباب بأوطانهم، وعدم تكوين روح تتعلق بالمجتمع الإسلامي، والأمة الإسلامية18.
  8. التقلبات الاقتصادية والأزمات المالية، وما يلحقها من تغيرات مؤثرة في المجتمعات الفقيرة من الأسباب الخطيرة المحركة لموجات الانحراف الفكري19.
  9. عدم وجود متابعة من مؤسسات الدولة المسؤولة على هذه الظاهرة ، فتولد مثل هذه الظواهر في المجتمعات لم يحدث بين يوم وليلة ، بل كان نتيجة تراكمات تكونت في فترات زمنية متباعدة.

وإن ما نعانيه وللأسف في المجتمعات الإسلامية هو وضع السبل الكفيلة بالقضاء على أي مشكلة لا يكون إلا بعد وقوعها وبعد استشرائها ، لذلك كان ولابد أن تسعى هاته المجتمعات وخاصة المسلمة منها إلى متابعة هذا الشيء من البداية حتى يسهل التعامل معه بشكل سليم20.

  1. التناقض الفاضح بين ما تحض عليه مواثيق النظم السياسية لبعض الدول من مبادئ ، وما تدعوا إليه من قيم إنسانية ومثاليات سياسية رفيعة، وبين ما تنم عنه سلوكاتها الفعلية والتي ترقى بها إلى مستوى التنكر العام لكل تلك القيم والمثاليات21.
  2. التفكك الأسري والاجتماعي: وهذا حال تشهده عديد من البلاد الأجنبية وعدد من البلاد العربية، مما يؤدي إلى انتشار الأمراض النفسية، وارتفاع نسبة المجرمين والمنحرفين والشواذ22.

     

المبحث الثاني : مفهوم الإرهاب وعلاقته بالتطرف

المطلب الأول: مفهوم الإرهاب

إن تعريف الإرهاب تعريفا دقيقا مسألة معقدة لاختلاف وجهات النظر حول ماهيته، وعدم الاتفاق على رأي واحد للوصول إلى تعريف موحد له، وكلمة (إرهاب) أصبحت تطلق على كل عمل مصحوب بالعنف والقوة والتهديد بها، سواء قام بهذا العمل أفراد أم جماعات أم دول، وبالرغم من الصعوبات التي تعترض إيجاد تعريف موحد له، إلا هناك بعض المحاولات الفقهية التي جرت للوصول إلى تعريف له حتى لو لم يكن هذا التعريف متفقا عليه بين الجميع23.

وسنتناول هذا الموضوع  مبتدئا بتعريف الإرهاب لغويا ، ثم التعريف في القرآن والسنة النبوية ثم التعريف القانوني، يليه التعريف في الاتفاقيات والمواثيق الدولية.

              

الفرع الأول : تعريف الإرهاب في اللغة

الإرهاب كما أقر مجمع اللغة العربية – كلمة مشتقة من الفعل (رهب) بمعنى خاف، وكلمة إرهاب مصدر الفعل (أرهب)، وأرهبه بمعنى خوّفه، واسترهبه أخافه و(ترهبه) بمعنى توعده، والمرهوب الأسد24.

وجاء في أساس البلاغة قوله (وهو رجل مرهوب عدوه منه مرهوب... يقشعر الإهاب إذا وقع منه الإرهاب) 25.

وفي المعجم لابن فارس (رهب، الراء والهاء والباء أصلان: أحدهما يدل على الخوف، والآخر يدل على دقة وخفة، فالأول الرهبة ، تقول: رهبت الشيء رُهْبًا، ورهبةً، ومن الباب الإرهاب، وهو قدْعُ الإبل من الحوض، وذيادها، والأصل الآخر الرَّهَبُ، الناقة المهزولة26.

جاء في لسان العرب : رَهِبَ بمعنى خاف ، والاسم الرّهَبُ بمعنى الرهبة ، وتقول رهبت الشيء أي خفته ، وقيل الرهبة هي الخوف والفزع والخشية، وقيل الرهبة27 مخافة مع تحرز واضطراب 28.

وقد خلت المعاجم العربية القديمة من كلمات الإرهاب والإرهابي، لأن تلك الكلمات حديثة الاستعمال، ولم تكن شائعة في الأزمنة القديمة ، وأوردت المعاجم اللغوية المعاصرة معنى لغويا للإرهاب في مفهومه الحديث، حيث أوضحت أن الإرهابي هو من يلجأ إلى الإرهاب لإقامة سلطته ، كما أن الحكم لإرهابي يقوم على الإرهاب والعنف الذي تعمد إليه بعض  الحكومات أو الجماعات الثورية29.

كما جاء في المعجم الوسيط الإرهابيون ( وصف يطلق على الذين يسلكون سبيل العنف والإرهاب لتحقيق أهدافهم السياسة.

والإرهابي في في الرائد " رعب تحدثه أعمال عنف كالقتل وإلقاء المتفجرات أو التخريب " والإرهابي " من يلجأ إلى الإرهاب بالقتل أو إلقاء المتفجرات أو التخريب لإقامة سلطة أو تفويض سلطة أخرى ، والحكم الإرهابي: " نوع من الحكم الاستبدادي يقوم على سياسة التعامل مع الشعب بالشدة والعنف بغية القضاء على النزاعات والحركات التحررية والاستقلالية30.

وفي المنجد كلمة الإرهابي تدل على كل من يلجـأ إلى الإرهاب لإقامة سلطته ) 31.

وإلى جانب المعاجم اللغوية العامة هناك معاجم متخصصة ، تجد أن من المهم أن تبرز الدلالة الاصطلاحية لهذه الألفاظ

ففي معجم العلوم الاجتماعية "الإرهاب terrorisme" إحداث الخوف والرعب " وهو قانوني، حين يقرن بالحكم فيقال "حكم الإرهاب" بمعنى استناد ذلك الحكم إلى وسائل قاسية تكفل بث الرعب في نفوس المحكومين.

وورد في معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية أن الإرهاب يعني " بث الرعب الذي يثير الخوف والفزع، أي الطريقة التي تحاول بها جماعة منظمة أو حزب أن يحقق أهدافه عن طريق استخدام العنف ، وتوجيه الأعمال الإرهابية ضد الأشخاص سواء كانوا أفراد أو ممثلين للسلطة ممن يعارضون أهداف الجماعة ، كما يعتبر هدم العقارات وإتلاف المحاصيل في بعض الأحوال شكل من أشكال النشاط الإرهابي .

ومن خلال ما ذكر فإنه يتضح أن لفظ الإرهاب في معناه العام يعطي معنى الخوف و الرعب والفزع ، وأن الأعمال الإرهابية يكون من نتائجها إحداث حالات من الخوف والرعب والفزع.

               

الفرع الثاني : تعريف الإرهاب في القرآن والسنة النبوية

 وردت كلمة (رهب) ومشتقاتها في القرآن الكريم الدالة على معنى الخوف والفزع والخشية إحدى عشرة مرة ، وينقسم الإرهاب المذكور في هذه الآيات إلى قسمين :

 1.إرهاب طبيعي ": وهو الخوف المودع  في النفس البشرية كما في قوله تعالى : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) القصص 32 ،أي من الفزع والرعب والخوف ، فأُمر عليه السلام إذا خاف من شيء أن يضم يده ليزول عنه ما يجده من الخوف ، وقوله تعالى : (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوَهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) الأعراف 115-116، أي خافوا من العصى والحبال ظنا منهم أنها حيات نتيجة السحر34.

2.إرهاب واجب وهو نوعان :

  • الخوف والخشية من الله عز وجل والخضوع له في الدنيا والآخرة ، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم في خمس آيات :
  • قوله تعالى : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) البقرة 40. أي خافوني وحدي دون سواي بلا شبيه أو نظير
  • قوله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) الأعراف 154.أي يخشونه ويخضعون له.
  • قوله تعالى : (وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) النحل 51.
  • قوله تعالى في حق سيدنا زكريا : (وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) الأنبياء 90 . أي يفزعون إلى الله سبحانه وتعالى ، فيدعون حال الرخاء وحال الشدة .
  • قوله تعالى : (لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ...) الحشر 13.
  • إرهاب الأعداء وإخافتهم : وهذا واجب على المسلمين بأن يمتلكوا القوة التي يستطيعون بها الذود عن حياض الإسلام والدفاع عن حماه وامتلاك كافة أدوات القوة المادية والمعنوية لإخافة الأعداء ، وهذا لقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الأنفال 60.

ومن  ثم فالإرهاب بهذا المعنى يكون إرهابا محمودا ، وهناك الإرهاب المذموم الذي عرفه المجتمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي : "بأنه العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغيا على الإنسان ودينه ودمه وعقله وماله وعرضه ، ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق، وما يتصل بصور الحرابة وإخافة السبيل وقطع الطريق ، وكل فعل من أفعال العنف أو التهديد به، يقع تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي ، ويهدف إلى إلقاء الرعب بينهم أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض  حياتهم أو حرياتهم أو أمنهم وأحوالهم للخطر ، ومن صنوفه إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق و الأملاك العامة أو الخاصة ، أو تعريض أحد الموارد الوطنية أو الطبيعية للخطر"35.

               

الفرع الثالث : تعريف الإرهاب في القانون

لاشك أنه لا يوجد للإرهاب تعريف واحد متفق عليه بين المتخصصين من الناحية الاصطلاحية لاختلاف الآراء والاتجاهات بين من تناولوا هذا الموضوع من جهة ، واختلاف مواقف الدول من جهة ثانية ، حيث ما يعتبره البعض إرهابا ينظر إليه البعض الآخر على أنه عمل مشروع

ومفهوم الإرهاب مفهوم متغير، وتختلف صوره وأشكاله وأنماطه ودوافعه اختلافا زمنيا ومكانيا، كما يتباين النظر إليه بتباين الثقافات القائمة في المجتمعات المعاصرة36.

وقد وردت عدة تعاريف للإرهاب منها :

فمنهم من قال : " أنه القتل والاغتيال والتخريب والتدمير ونشر الشائعات والتهديد ، وصنف الابتزاز والاعتداء ، وأي نوع يهدف إلى خدمة أغراض سياسية واستراتيجية، أو أي أنشطة أخرى تهدف إلى إشاعة عدم الاستقرار والضغوط المتنوعة.

وعرف الأستاذ سرحان الإرهاب بأنه : "كل اعتداء على الأرواح والممتلكات العامة أو الخاصة بالمخالفة لأحكام القانون الدولي بمصادره المختلفة ، وهو بذلك يمكن النظر إليه على أساس أنه جريمة دولية أساسها مخالفة القانون الدولي  ، ويعد الفعل إرهابا دوليا، وبالتالي جريمة دولية سواء قام به فرد أو جماعة أو دولة ، كما يشمل أعمال التفرقة العنصرية التي تباشرها بعض الدول"37.

وعرفه الأستاذ عبيد بأنه : "الأفعال الإجرامية الموجهة ضد الدولة والتي يتمثل غرضها أو طبيعتها في إشاعة الرعب لدى شخصيات معينة أو جماعات من الأشخاص أو عامة الشعب ، وتتسم الأعمال الإرهابية بالتخويف المقترن بالعنف مثل أعمال التفجير وتدمير المنشآت العامة وتحطيم السكك الحديدية والقناطر وتسميم مياه الشرب ونشر الأمراض المعدية والقتل الجماعي"38.

أما قانون العقوبات المصري في تعديلاته الجديدة جاء في نص المادة 86 منه : "يقصد بالعمل الإرهابي كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع بهدف الإخلال بالنظام العام أوتعريض سلامة المجتمع أومصالحه أو أمنه للخطر، أو إيذاء الأفراد أو إلقاء العرب بينهم أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو حقوقهم أو أمنهم للخطر أو الإضرار بالوحدة الوطنية ، أو إلحاق الضرر بالبيئة أو الموارد الطبيعية أو بالآثار أو بالأموال أو المباني أو بالأملاك العامة أو الخاصة أو احتلالها أو الاستيلاء عليها، أو منع أو عرقلة السلطات العامة أو الجهات أو الهيئات القضائية أو مصالح الحكومة أو الوحدات المحلية أو دور العبادة  أو المستشفيات أو مؤسسات معاهد العلم أو البعثات الدبلوماسية أو القنصلية أو المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية في مصر من القيام بعملها أو ممارستها لكل أو بعض أوجه نشاطها أو مقاومتها أو تعطيل تطبيق أي من أحكام الدستور أو القوانين أو اللوائح ، وكذلك كل سلوك يرتكب بقصد تحقيق أحد الأغراض المبينة في الفقرة السابقة، أو الإعداد لها أو التحريض عليها إذا كان من شأنه الإضرار بالاتصالات أو بالنظم المعلوماتية أو بالنظم المالية أو البنكية أو بالاقتصاد الوطني ، أو بمخزون الطاقة أو بالمخزون الأمني للسلع والمواد الغذائية والمياه وسلامتها ، أو بالخدمات الطبية في الكوارث والأزمات ، ويقصد بتمويل الإرهاب كل إتاحة أو جمع أو تلقي أو حيازة أو إمداد بشكل مباشر أو غير مباشر ، أو بأي وسيلة لأموال أو أماكن أو أسلحة أو ذخائر أو مفرقعات أو مهمات أو آلات أو بيانات أو معلومات أو مواد أو غيرها بقصد استخدامها كلها أو بعضها في ارتكاب أي جريمة إرهاب من قبل فرد ، أو من قبل جماعة إرهابية.

أما في قانون العقوبات الجزائري في مادته 87 مكرر (معدلة) فيما يخص الجرائم الموصوفة بأفعال إرهابية أو تخريبية ، بحيث يعتبر فعلا إرهابيا أو تخريبا في مفهوم هذا الأمر ، كل فعل يستهدف أمن الدولة والوحدة الوطنية والسلامة الترابية واستقرار المؤسسات وسيرها العادي عن طريق أي عمل غرضه ما يأتي :

  • بث الرعب في أوساط السكان وخلق جوا انعدام الأمن من خلال الاعتداء المعنوي أو الجسدي على الأشخاص، أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر أو المس بممتلكاتهم .
  • عرقلة حركة المرور أو حرية التنقل في الطرق والتجمهر أو الاعتصام في الساحات العمومية
  • الاعتداء على رموز الأمة والجمهورية ونبش أو تدنيس القبور
  • الاعتداء على وسائل المواصلات النقل والملكيات العمومية والخاصة ، والاستحواذ عليها أو احتلالها دون مسوغ قانوني.
  • الاعتداء على المحيط أو إدخال مادة أو تسريبها في الجو أو في باطن الأرض أو إلقائها عليها أو في المياه بما فيها المياه الإقليمية من شأنها جعل صحة الإنسان أو الحيوان أو البيئة الطبيعية في خطر.
  • عرقلة عمل السلطات العمومية أو حرية ممارسة العبادة والحريات العامة وسير المؤسسات المساعدة للمرفق العام.
  • عرقلة سير المؤسسات العمومية ، أو الاعتداء على حياة أعوانها أو ممتلكاتهم أو عرقلة تطبيق القوانين والتنظيمات.
  • تحويل الطائرات أو السفن أو أي وسيلة أخرى من وسائل النقل.
  • إتلاف منشآت الملاحة الجوية أو البحرية أو البرية.
  • تخريب أو إتلاف وسائل الاتصال.
  • احتجاز الرهائن.
  • الاعتداءات باستعمال المتفجرات أو المواد البيولوجية أو الكيميائية أو النووية أوالمشعة.
  • تمويل إرهابي أو منظمة إرهابية

أما في القانون الأمريكي : تعددت التعريفات المعتمدة للإرهاب في القانون الأمريكي، ولكنها لا تخرج عن المفهوم العام للإرهاب من وجهة نظر لإدارة الأمريكية ، فالإرهاب في القانون الأمريكي هو : " الاستخدام غير  القانوني للقوة والعنف ضد البشر أو ممتلكاتهم بغرض إجبار الحكومة أو المجتمع على تحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية معينة39.

                 

الفرع الرابع : تعريف الإرهاب في الاتفاقيات والمواثيق الدولية

إن تعريف الإرهاب في إطار الاتفاقيات والمواثيق الدولية له أهمية كبيرة ، حيث إن تعريف وتحديد الأفعال والأعمال الداخلة في نطاق الإرهاب تعتبر بداية الجهود الدولية لمكافحته من خلال أرضية مشتركة متفق عليها بين الدول.

وفيما يلي بعض الجهود الدولية التي بذلت في هذا المجال، والتي عرفت الإرهاب وأعماله.

عرفت اتفاقية عصبة الأمم عام 1937 في المادة الأولى منها الأعمال الإرهابية بأنها : "أفعال إجرامية موجهة ضد دولة من الدول ، ويقصد بها أو يراد  منها خلق حالة من الرهبة في  أذهان أشخاص معينين أو مجموعة من الأشخاص أو الجمهور العام".

كما حددت المادة الأولى من اتفاقية لاهاي 1970 العناصر المكونة لجريمة الإرهاب اختطاف الطائرات ، واعتبرت أي شخص يقوم بطريقة غير مشروعة مرتكبا لهذه الجريمة إرهابيا، سواء كان ذلك عن طريق العنف أو التهديد به ، واستولى على الطائرة أو سيطرة عليها أو شرع في ارتكاب أي من هذه الأفعال أو اشترك مع أي شخص يقوم أو يشرع في ذلك41.

وعرفت المادة الأولى من الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب الصادرة عن الاجتماع المشترك لمجلس الداخلية ووزراء العدل العرب المنعقد في القاهرة عام 1998 الإرهاب تعريفا صريحا بأنه : كل فعل من أفعال العنف أو التهديد به أيا كانت بواعثه أو أغراضه يقع تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي ، ويهدف إلى إلقاء العرب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر، أو إلحاق الضرر بالبيئة ، أو بأحد المرافق أو الأملاك العامة أو الخاصة، أو احتلالها أو الاستيلاء عليها، أو تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر42.

مما سبق يتضح أن جميع التعريفات اللغوية والشرعية والقانونية اتفقت في العناصر الأساسية للجريمة الإرهابية وركزتها في استخدام القوة أو العنف أو التهديد، وتوجيه هذه القوة نحو الأشخاص كقتلهم أو إيذائهم أو إتلاف الممتلكات بتخريبها وتدميرها، سواء كانت ممتلكات خاصة أو عامة ، أو التهديد بإخلال الأمن وإحداث نوع من الفوضى ، وتعريض أرواح الناس وممتلكاتهم للخطر أو استخدام القوة والعنف من أجل إحداث الفزع والخوف للوصول إلى هدف مهما كان هذا الهدف.

     

المطلب الثاني: علاقته بالتطرف

إن التفريق بين الإرهاب والتطرف هو مسألة جد شائكة، وذلك لشيوع التطرف والإرهاب كوجهين لعملة واحدة ، ومع ذلك فالتفرقة ضرورية ، ويمكن رسم أوجه الاختلاف بينهما من خلال النقاط التالية :

  • التطرف يرتبط بمعتقدات وأفكار بعيدة عما هو معتاد ومتعارف عليه سياسيا واجتماعيا ودينيا دون أن ترتبط تلك المعتقدات و الأفكار بسلوكيات مادية عنيفة في مواجهة المجتمع أو الدولة، أما إذا ارتبط التطرف بالعنف المادي أو التهديد بالعنف فإنه يتحول إلى إرهاب ، فالتطرف دائما في دائرة الفكر ، أما عندما يتحول الفكر المتطرف إلى أنماط عنيفة من السلوك من اعتداء على الحريات أو الممتلكات أو الأرواح أو تشكيل التنظيمات المسلحة التي تستخدم في مواجهة المجتمع والدولة ، فهو عندئذ يتحول إلى إرهاب43.
  • التطرف لا يعاقب عليه القانون، ولا يعتبر جريمة ، بينما الإرهاب هو جريمة يعاقب عليها القانون، فتطرف الفكر لا يعاقب عليه القانون باعتبار هذا الأخير لا يعاقب على النوايا والأفكار، في حين أن السلوك الإرهابي المُجرّم هو حركة عكس القاعدة القانونية، ومن ثم يتم تجريمه.
  • يختلف التطرف عن الإرهاب من خلال طرق معالجته ، فالتطرف في الفكر تكون وسيلة علاجه هي الفكر والحوار، أما إذا تحول التطرف إلى تصادم فهو يخرج عن حدود الفكر إلى نطاق الجريمة مما يستلزم تغيير مبدأ المعاملة وأسلوبها44.
  • ليس من الضرورة أن يتحول التطرف إلى عنف، أي أن التطرف لا يعني بالضرورة العنف، ولكن الإرهاب يعني بالضرورة ذلك، لأن الإرهاب يرتبط بدرجة أو بأخرى بالعنف، أو على الأقل التهديد به45.

إذن من خلال التمييزات بين الإرهاب والتطرف تطرح الإشكالات الآتية :

  • هل التطرف هو دائما مقدمة حتمية للإرهاب؟
  • ألا يمكن لشخص أن يتطرف في فكرة دونما اللجوء إلى العنف لتطبيق أفكاره على أرض الواقع؟ ومن جهة أخرى ألا توجد مجموعة الأشخاص يمارسون الإرهاب مقابل المال فقط ، ولايرتبطون بأي منظومة فكرية؟

إن محاولة استقراء الإشكالات السالفة الذكر والنظر فيها يبين لنا بجلاء أن التطرف يمكن أن يكون أحد أسباب الإرهاب وليس هو الإرهاب نفسه.

      

المبحث الثالث : طرق العلاج وموقف الإسلام من التطرف والإرهاب

المطلب الأول : طرق العلاج

إن دراستنا لأي مشكلة تواجهنا إنما يكون من أجل وضع الحلول المناسبة لمواجهتها ، ولا شك أن مشكلة التطرف الفكري مرض عقلي تعاني منه بعض فئات المجتمع ، وكل مرض لابد له بعد تشخصيه من البحث عن وسائل مكافحته ، فلكل داء دواء ، والفكر المتطرف في حاجة إلى علاج فكري يواجهه ويوضح أخطاءه وانحرافه عن صراط الله المستقيم ، ويكون علاجه بتكاتف جهود أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع ، وبتعاون الأفراد والأسر وذلك من خلال :

  • إظهار وسطية الإسلام واعتداله وتوازنه والعمل على ترسيخ الانتماء لدى الشباب لهذا الدين.
  • معرفة الأفكار المنحرفة وتحصين الشباب ضدها، سواء كان ذلك في محيط الأسرة أو في المؤسسات التعليمية، أو في الوظيفة، وذلك من خلال تشخيص الانحراف، والتطرف ومعرفة أسبابه وإيجاد العلاج المناسب له، فكلما تم التصدي للانحراف والتطرف الفكري في بداياته كان ذلك أجدى وأنفع.
  • التأكيد على دور الحوار في العلاج، فالحوار أسلوب ناجح في بناء المفاهيم الصحيحة وبيان الحق ، ورد المعتقدات الفاسدة وما يصاحبها من شبهات.
  • الاستفادة في مرحلة العلاج من علماء الشرع والأخصائيين الاجتماعيين والنفسانيين بما يملكون من علم ومعرفة وخبرة، وذلك من أجل إقناع من تأثر بالفكر المتطرف، وتصحيح ما لديه من مفاهيم خاطئة وقناعات سلبية نحو الذات أو الأسرة أو المجتمع أو الدولة .
  • الاستفادة من مؤسسات التنشئة "الأسرة ومؤسسات التعليم والمسجد والنوادي الاجتماعية والثقافية" في مرحلة العلاج، وذلك بتفعيل دورها في التوجيه والإرشاد وتصحيح المفاهيم ، وإعادة تشكيل الفكر بتنقيته من كل ما علق به من تطرف وانحراف48.
  • توظيف التقنية الحديثة وذلك بإعداد مجموعة من الدعاة والعلماء والأخصائيين في المجال الاجتماعي والنفسي، لديهم القدرة على التعامل مع الانترنت من أجل الرد على الشبهات المثارةـ، وتصحيح الفكر والتأثير الإيجابي على مستخدمي الانترنت وخاصة الناشئة.
  • تطبيق الأحكام الشرعية وإنفاذ القوانين والأنظمة بحق منحرفي الفكر لحماية المجتمع من أخطارهم ، وذلك بعد استنفاد كل الوسائل الممكنة في علاج الفكر المنحرف والتطرف وتعديل السلوك الفاسد
  • تحميل الفضائيات العربية المهمة للقيام بمسؤوليتها الشرعية.

      

المطلب الثاني : موقف الإسلام من التطرف والإرهاب

الإسلام لا يعرف التعصب ولا العنف ولا التطرف ولا الإرهاب ، ومن ذلك لا يدعوا أتباعه إلى التطرف والعنف ، ومصادر الإسلام من كتاب وسنة لا تشمل على شيء من هذا القبيل، فالإسلام صان حرمة النفس البشرية ، وحمى حقوق الإنسان دمه وعرضه وماله، والإسلام يقرر لأتباعه أنه دين يسر لا عسر، والدعوى للإسلام كما يشير القرآن تقوم على أساس من الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى، وكل هذه الأساليب بعيدة تماما عن العنف أو أي شكل من أشكال التعصب ، من خلال هذا التوجه الحكم يرفض الإسلام نزعة التطرف أو الغلو أو الإرهاب، الذي ينشر الخوف والذعر ويشيع القلق بسبب بعض الحوادث الإرهابية على بعض الأشخاص الأبرياء أو الآمنين، أو الممتلكات أو المؤسسات الصناعية أو التجارية أو الزراعية، ويمقت أيضا كل أوضاع التخريب أو التدمير أو الإساءة بغير حق للأشخاص مسلمين أو غير مسلمين ، لأن الإسلام دعوة حضارية إنسانية خالدة وحكيمة ، لا تنتشر في أنحاء الأرض إلا في ظل قاعدة راسخة من الأمن والسلام والاستقرار، واحترام لحقوق الإنسان وبأسلوب منطقي حضاري يخاطب الوجدان و العقل، ويرعى العلم وأهله ، ويحرك نزعات النفس الفطرية للإيمان بالله تعالى وبرسله وبما أنزل عليه من وحي ثابت إلى اليوم.

والإسلام لا يفرق في دعوته بين إصلاح العقيدة وتصحيح العبادة والتزام الأخلاق الفاضلة القائمة على الأمر  بالمعروف والإصلاح والنهي عن المنكر والفساد ، ودعوة الإسلام للسلام وقمع التطرف والإرهاب واضحة المعالم لكل إنسان من خلال نصوص شرعية  كثيرة ، ويتبين من هذا أن الإسلام يدين التطرف والإرهاب، وقد أصدر الفقهاء وعلماء الدول الإسلامية في مجمع الفقه الإسلامي الدولي بيانا واضحا حول هذا الموضوع في دورته الثالثة عشر المنعقدة في دولة الكويت في سبتمبر عام 1422 هـ -2001 جاء فيه في الفقرة الثالثة / تحريم العدوان في الإسلام : " إن الإسلام يحرم الاعتداء بغير حق ، ومن ذلك ترويع قلوب الأبرياء الآمنين ، ممن عصمت دماؤهم ، فأي عدوان من هذا النوع هو إرهاب محرم"49.

     

الخاتمة :

إن معالجة أي ظاهرة من الظواهر لا يمكن إلا بمعرفة أسباب نشأتها، فإذا تبين أن التطرف والغلو والإرهاب سببه إما الجهل بأحكام الله ، وإما اتباع الهوى ، وإما الانحراف من خلال الحريات المفتوحة في المجتمع أو الإفساد الإعلامي ، وإما بسبب الظلم والتعسف الأمني في استخدام السلطة، وإما بإغلاق قنوات الحوار وإلغاء الآخر، ومصادرة حقه في الحياة والعيش والمشاركة، وإما بسبب الفقر والحاجة والبطالة والفراغ الروحي عند كثير من فئات المجتمع ، خاصة الشباب منهم ، مما يدفع إلى التفكير في الانتقام والجنوح إلى التطرف.

إذا علمنا أسباب التطرف والغلو سهل علينا وضع الحلول و الدراسات لمعالجة هذه الظواهر التي هي في كثير منها وليدة واقع مرير كبر مع الأيام وتراكم عبر المواقف.

ويبقى في هذا السياق أن نشير إلى أنه بالرغم مما يبذل من جهود في كافة الاتجاهات لمواجهة ظاهرة التطرف والإرهاب ، فإن هذا لن يؤدي لزوالها بالكلية، فهي باقية بقاء المجتمعات البشرية، صحيح أن هذه الجهود تحبوا أحيانا وتنزوي و تتفاقم أحيانا أخرى وتربوا ، لكنها لا تنتهي لا سيما بعد أن أخذت أبعادا دولية ، ويصعب على المجتمعات المحلية وأنظمتها الحاكمة فك تعقيداتها والقضاء عليها تماما ، ومن الواجب تظافر الجهود وتعاون كافة المؤسسة المجتمع المدني القيام بالدور الوقائي وتأهبها لمواجهة ما تمليه هذه الظواهر الخطيرة من تداعيات محتملة.

      

قائمة المراجع :

  • علي بن عبد العزيز بن علي الشبل، الجذور التاريخية لحقيقة الغلو والتطرف والإرهاب والعنف، موقع الإسلام alislam.com ص9 ، نقلا عن القاموس المحيط وشرحه تاج العروس ولسان العرب ومعجم مقايس اللغة ، المصباح المنير مادة (طرف).
  • ابن منظور ، لسان العرب ، طبعة جديدة ، ج9 ، ص 262
  • رائد محمد حمزة ، مكافحة الإرهاب والتطرف وأسلوب المراجعة الفكرية 2012 ، جمهورية مصر العربية ، وزارة الداخلية ، ص5
  • أ.د وهبة الزحيلي ، موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة ، ج13 ، ص726 ، وكذلك د. صلاح الصاوي ، التطرف الرأي الآخر ، الآفاق الدولية للإعلام ، ص8 ، وكذلك د. طارق محمد الطواري ، ورقة مقدمة للمؤتمر الدولي الرابع المنعقد بمدينة فيفاي، سويسرا ، 2005 ، ص5.
  • د. علي عبد العزيز بن علي الشبل ، مرجع سابق ، ص9.
  • د. صلاح الصاوي ، مرجع سابق ، ص 8.
  • محمد محمود ولد محمد محفوظ ولد الطالب أحمد ، ظاهرة التطرف الأسباب والعلاج ، ص1.
  • رائد محمد حمزة ، مرجع سابق ، ص5
  • أ.د وهبة الزحيلي ، مرجع سابق ، ص 727.
  • رائد محمد حمزة ، مرجع سابق ، ص 6 ، وكذلك د. طارق محمد الطواري ، مرجع سابق ، ص15.
  • محمد محمود ولد محمد محفوظ ولد الطالب أحمد ، مرجع سابق، ص2.
  • الظاهري ، خالد بن صالح بن ناهض 2002 ، دور التربية الإسلامية في الإرهاب ، رسالة دكتواره منشورة ، الرياض ، دار عالم الكتب ، ص 61-62، وكذلك السلطان عبد الله بن عبد المحسن 2003 ، عن الإرهاب والإرهابيين ، الرياض مؤسسة الجريسي للتوزيع والإعلان ، ص57
  • اللويحق عبد الرحمن بن المعلا 1998 ، مشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر ، ج2 ، الرياض ، جامعة محمد بن سعود الإسلامية ، ص 693.
  • الظاهري ، مرجع سابق ، ص 60-61-63-64 ، وكذلك أحمد مبارك سالم ، الانحراف والتطرف الفكري ، الدراسة الأولى ، ص 3.
  • أحمد مبارك سالم ، مرجع سابق ، ص2.
  • د. أسماء بنت عبد العزيز الحسين ، أسباب الإرهاب والعنف والتطرف ، دراسة تحليلية ، موقع حملة السكينة ، ص 6.
  • منصور سيد أحمد والشربيني، زكرياء أحمد 2003 ، سلوك الإنسان بين الجريمة والإرهاب ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، ص 249
  • د. أسماء بنت عبد العزيز حسين ، مرجع سابق ، ص10.
  • الظاهري 2002 ، مرجع سابق ، ص 59-60.
  • أحمد مبارك سالم ، مرجع سابق ، ص3.
  • منصور والشربيني ، مرجع سابق ، ص 244-245.
  • د. أسماء بنت عبد العزيز الحسين ، مرجع سابق ، ص 11.
  • نقلا عن العميري محمد عبد الله ، موقف الإسلام من الإرهاب ، دكتوراه منشور الرياض ، مركز الدراسات والبحوث ، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية ، 1425 هـ، ص17.
  • الفيروز أبادي ، مجد الدين محمد بن يعقوب ، القاموس المحيط ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1419 هـ ،ص 76.
  • الزمخشري جار الله أبي القاسم ، أساس البلاغة ، بيروت ، دار المعرفة للنشر ، 1399 هـ ، ص 38.
  • معجم مقاييس اللغة لابن فارس ، ج2 ، ص 401 ، مادة (رهب).
  • ابن منظور ، لسان العرب ، المجلد 1 ، بدون طبعة ، دار بيروت للطباعة والنشر ، لبنان ، سنة 1995 ، ص 375
  • نقلا عن هيثم فالح شهاب ، جريمة الإرهاب وسبل مكافحتها في التشريعات الجزائية المقارنة ، ط1 ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، الأردن 2010 ، ص28.
  • عبد الوهاب الكيالي ، موسوعة السياسة ، ط2 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1985 ، ص153.
  • مسعود جبران ، الرائد ، بيروت ، دار الشروق 1990 م ، ص 88.
  • المنجد في اللغة ، ص 280 ، دار الشروق ، بيروت.
  • بدوي أحمد زكي ، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية ، بيروت ، مكتبة لبنان ، د.ت ، ص182.
  • إسماعيل ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ، ط1 ، ج6 ، بيروت ، المكتبة العصرية 1998 ، ص235.
  • الطبري محمد بن جرير الطبري ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، ط1 ، ج3 ، دار القلم 1997 ، ص 654.
  • رابطة العالم الإسلامي ، قرارات المجمع الفقهي بمكة المكرمة 1422 ، ص3.
  • الحجني ، فايز علي ، الجهود العربية في مكافحة الإرهاب ، الرياض ، أكاديمية نايف للعلوم الأمنية 2000 ، ص299.
  • سرحان عبد العزيز ، تعريف الإرهاب الدولي ، المجلة المصرية للقانون الدولية ، المجلة التاسعة والعشرون 1973 ، ص173.
  • عبيد حسن إسماعيل ، نحو استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب ، مجلة الأمن بالرياض، وزارة الداخلية ، العدد (42) – 1415 ، ص319.
  • المحامي عبد القادر زهير النقوزي ، المفهوم القانوني الجرائم لإرهاب الداخلي والدولي ، منشورات الحلبي الحقوقية ، ط1 ، 2008.
  • عز الدين أحمد جلال ، الإرهاب والعنف السياسي ، القاهرة 1986 ، دار الحرية.
  • سكري محمد عزيز ، الإرهاب الدولي ، بيروت ، دار العلم ، ص 27.
  • الأمانة العامة لمجلسي وزراء الداخلية والعدل العرب ، الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب 1998 ، ص2.
  • زكور يونس ، الإرهاب مقاربة للمفهوم من خلال الفقه المقارن والقانون ، الكلية المتعددة التخصصات ، 2005-2006 ، آسفي ، ص 92.
  • إمام حسنين عطاء الله ، الإرهاب البنيان القانوني للجريمة ، دار المطبوعات الجامعية ، 2004 ، ص 230.
  • د. جميل حزام يحي الفقيه ، مفهوم الإرهاب في القانون الدولي العام ، الدائرة القانونية والإدارية بمركز الدراسات والبحوث اليمني ، صنعاء ، الديوان العام ، ص 29
  • إبراهيم بن ناصر بن محمد الحمود ، الانحراف الفكري وعلاقته بالإرهاب ، عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، الرياض ، 1429 ، ص99.
  • محمد بن معلث الرشيدي ، معالجة الصحافة السعودية لظاهرة الانحراف الفكري ، رسالة علمية غير منشورة ماجستير، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، كلية الدراسات العليا، قسم العلوم الشرطية 1429 ، ص 41.
  • عمر التومي الشيباني ، دور المواطن في الوقاية من الجريمة والانحراف ، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية ، الرياض ، 1414 ، ص 31.
  • أ.د وهبة الزحيلي ، مرجع سابق ، ص 744/745.

الاعجاز (المفهوم والمنهج)

                   

أ. عبد القادر جعيد

مركز البحث في العلوم الاسلامية والحضارة – الأغواط

                  

تمهيد: إن الذي يجرأ على البحث في موضوع الاعجاز في القرآن والسنة النبوية كالذي غاص في أعماق المحيط، كلما أعتقد أنه وصل إلى قعره صُدم بأنّه في نقطة البداية، أو كالسابح في الفضاء كلما رمى طرفه عاد خاسئا و هو حسير . ولهذا قال العلامة الطاهر بن عاشور: "لم أر غرضا تناضلت له سهام الافهام. ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى .واقتنعت بما بلغته من صُبابةٍ نزرا. مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن"[i] ، غير أنه لم يزل شغل الكثير من الدارسين، كل حسب اختصاصه والجميع عقد العزم لولوج هذا الباب لنيل أحد الأجرين. وشاء الله تعالى أن يخصّنا بهذا السهم. لعلّنا نظفر بشيء من ذلك. وقد جاء  البحث في محورين هما:

                          

المحور الاول: مفهوم الاعجاز

المحور الثاني :منهجية الدراسة في الاعجاز.

                        

أولا: مفهوم الاعجاز:

لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مصطلح الاعجاز أو لفظة معجزة إلاّ في وقت متأخر بعض الشيء، في أواخر القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث. غير أن القرآن الكريم استعمل مجموعة من الالفاظ ليست مرادفة (للفظة معجزة أو إعجاز)وإنما تدل على جزء من معناها الذي يشمل أكثر من معنى جزئيّ واحد. وهذا الجزء يقابل كلمة دليل أو حجّة [ii].

الآية: يقول تعالى﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾.الانعام109

البرهان:﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ﴾.القصص 32

السلطان:قال عزّ وجل: ﴿تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآِؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ابراهيم10.

البيّنة: قال تبارك وتعالى:﴿قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اَللهِ لَكُمْ ءَايَةًالاعراف73.

                      

التعريف اللغوي: مادة(ع-ج-ز)  .الشائع في الاستعمال من هذه المادة أصلان ،الاصل الاول (عجز) والعجز: مؤخَّر الشيء ،والعجز الضعف[iii]، قال الراغب الاصفهاني: أصل العجز التأخر عن الشيء وحصوله عند عجز الامر، أي مؤخَّره، وصار في التعارف اسما للقصور عن فعل الشيء، وهو ضد القدرة[iv].

و يقال  :عجز يعجز عجزا فهو عاجز؛ أي ضعيف. ويقال :أعجزني فلان، إذا عجزت عن طلبه وادراكه[v]وقال ابن منظور: العجز نقيض الحزم[vi]."وقد وردت مشتقات هذه المادة للدلالة على عدد من المعاني القريبة أو المغايرة قليلا لذلك في ستة وعشرين موضعا من القرآن الكريم بألفاظ(أعجز)، و(معجزين)،و(عجوز)،و(أعجاز)،وتصريفاتها مثل قوله تعالى:

﴿قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ﴾المائدة31.

﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾الانعام134.

﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ﴾الانفال59.

﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾هود72. "[vii]

مادة(ج-ز-ع) الاصل الثاني،والجزع ما يحس به المرء من القلق والاضطراب وضيق الصدر أو عدم الصبر.

وهو قطع امتداد السكون وحالة الطمأنينة والصبر حتى يظهر منه ما يخالف السكون وينقطع حاله الممتد تقديرا، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن الكريم مرتين، جاء بصيغة الفعل وذلك في قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ابراهيم 21.و جاء بصيغة الاسم قال تعالى: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً﴾المعارج20 .وإذا عقدنا عليه وعلى تقاليبه معنى ،وإن تباعد شيء من ذلك  عنه ردّ بلُطف الصنعة والتأويل حصلنا على معنى الضعف المصحوب بالانفعال النفسي والاضطراب .

ولما كان مفهوم الإعجاز لا ينفك عن المعجزة كان لازما علينا  تعريفها لغة واصطلاحا حتى ينجلي الابهام وينكشف اللّثام ويحصل المرام.

                   

تعريف المعجزة لغة: مشتقة من الفعل الرباعي المهموز أعجز، ومصدره إعجاز وهي اسم فاعل لحقته (الهاء)للمبالغة في الخبر كما وقعت المبالغة بالهاء في قولهم علامة وفهامة ونسابة، وقيل: الهاء للنقل من الوصفية  إلى الاسمية نحو ذبيحة حقيقة، نطيحة ،فلفظة حقيقة أصله وصف. وهناك نكتة أخرى فحروفها كلها مجهورة (تصحبها ذبذبة الوترين ) وشديدة (انفجارية)  ماعدا (الزاي )فهي رخوة ولكن لها صفير ومخارجها  من وسط الحلق(ع) وسط اللسان وما يحاذيه من الحنك الاعلى(ج)،و بين طرف اللسان وفوق الثنايا(ز).وكأنّ هذه المعجزة  شديدة الوقع كشدّة صفة حروفها تتغلغل في أعماق النفس ابتداء  ثم تتصعد لتصيب صاحبها بغصة لأنه أضعف ما يكون على مجاراتها .

                    

تعريف المعجزة اصطلاحا:يُعرّف  السيوطي المعجزة بأنّها:(أمر خارق للعادة  مقرونٌ بالتحدِّي  سالم من المعارضة)[viii] ،ونفس التعريف ذهب إليه ابن خلدون حيث يقول:(إن الخوارق( المعجزات )هي أفعال يعجز البشر عن مثلها، فسميت بذلك معجزة، وليست من جنس مقدور العباد، وإنما تقع في غير محل قدرتهم)[ix].ويقول القاضي عبد الجبار الهمذاني (ت215ه):" معنى قولنا في القرآن أنه معجز ؛أنه يتعذر على المتقدمين في الفصاحة فعل مثله، في القدر الذي اختص به"[x]ويقول الشريف الجرجاني" الإعجاز في الكلام هو أن يؤدي المعنى  بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق. كما قال أيضا: حدّ الاعجاز هو أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضتهم"[xi].

                  

شروط المعجزة: يذكر القرطبي  في كتابه(الجامع لأحكام القرآن)خمسة شروط لا يصح من دونها لحادث أن يسمى معجزة وهي:

1-الحادث ينبغي أن يكون ممّا لا يستطيعه إلا الله.

2-يجب أن يخرق قوانين الطبيعة.

3-ينبغي أن ينبئ عنه الحكيم قبل أن يقع.

4-يجب أن يكون الحادث الواقع موافقا لما قيل .

5-ألاّ يكون في استطاعة أحد أن يجري مثل هذا الامر.

وبالرجوع إلى مصطلح(الاعجاز)فُهم منه أنّه لفظة مشتقة من إثبات( العجز) وهو الضعف وعدم القدرة"[xii] أمّا(إعجاز القرآن) فهو مركب إضافي ،وقد عرفوه بقولهم إظهار صدق النبي) (T في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في معجزته الخالدة -وهي القرآن -وعجز الاجيال بعدهم "[xiii].أمّا الاستاذ محمد علي الصابوني فيعرفه بقوله:" إثبات عجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الاتيان بمثله، وليس المقصود من إعجاز القرآن هو تعجيز البشر لذات التعجيز أي تعريفهم بعجزهم عن الاتيان بمثل القرآن، فإنّ ذلك معلوم لدى كل عاقل، وإنما الغرض هو إظهار أنّ هذا الكتاب حق، وأنّ الرسول الذي جاء به رسول صدق، وهكذا سائر الأنبياء الكرام"[xiv].

أما الاستاذ الرافعي فيرى أن الاعجاز شيئان: أحدهما: ضعف القدرة الانسانية في محاولة المعجزة ،مزاولته على شدة الإنسان واتصال عنايته. وثانيهما: استمرار هذا الضعف على تراخي الزمني وتقدمه[xv].

                  

الفرق بين المعجزة والكرامة والسحر:

لقد سبق وأن عرفنا المعجزة ،والفرق بينها وبين الكرامة ؛أنّ هذه الاخيرة هي فعل الله عزّ وجلّ يكرم به منْ يشاء مِن عباده مثل ما أكرم به سبحانه السيدة مريم البتول رضي الله عنها ،قال تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾آل عمران37،ومن هذا القبيل إكرام فتية الكهف وكثير من الصالحين ومنْ نال هذه الحضوة ليس مكلف بتبليغ الرسالة.أما السحر فهو عمل مشين مُحرم شرعا فليس فيه الاّ الأذى والشر والشحناء وهو قابل للتّعلُم،وصاحبه ملعون وهو من شرار الخلق قال عزّ من قائل: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ البقرة102.

                 

أنواع المعجزات :

لقد اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى أن تكون معجزاته منسجمة مع أحوال البشر الذين ظهرت فيهم،بما يتناسب مع فروقهم الفردية والجماعية وزمانهم ومكانهم،إذْ الغاية من المعجزة تأييد الرسل وقيام الدليل على صحة دعواهم،ولهذا وجدنا العلماء يقسمون المعجزة إلى قسمين:

                

1)المعجزة الحسية :وهي التي تظهر في شكلها المادي المحسوس المشاهد للعيان تعتمد أساسا على خرق ما اعتاد الناس عليه وألفوه،وهي تحيا وتفنى مع صاحبها،وحجة في حق من شهدها ،كما تتناسب مع ما اشتهر ونبغ فيه أقوام المرسلين حتى يكون التحدي دامغا ومثبتا لقدرة الله سبحانه وتعالى .وهذه بعض النماذج عليها.

                     

*معجزة ابراهيم عليه السلام:القاء ابراهيم عليه السلام في النار انتقاما منه لالهتهم  وعلى مشهد منها حتى تباركه ويكون وقعه رهيبا ،وقدّر الله تعالى أن يقذف الخليل عليه السلام في النار والموكب الضال يتباشر بهلاكه ،لكن صار الامر الى ما لا يسرهم قال تعالى:﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾الانبياء 69.

                      

*معجزة موسى عليه السلام:لقد اشتهر قوم موسى بالسحر ونبغوا فيه،فكانت معجزة سيدنا موسى عليه السلام من جنس ما عرف قومه( العصا،اليد البيضاء) قال جلّ من قائل: ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾الشعراء32-33.

وتحدّاه قومه وجعلوا يوم الزينة موعدا لذلك،فلما رأى السّحرة ما آلت إليه العصا كانوا أقدر الناس على فهمها فخروا سجدا قال تعالى:﴿ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾الشعراء45-46-47.

                      

*معجزة عيسى عليه السلام: اشتهر قوم نبي الله  المسيح عيسى عليه السلام في ميدان الطب ولقد برعوا فيه فكانت المعجزة مناسبة لهذا،فأبرأ الاكمه والابرص وأحيا الموتى بإذن الله.كما يقول سبحانه على لسان عيسى:﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ﴾آل عمران49.

                            

2)المعجزة العقلية: هي المعجزة التي تخاطب العقل، وتواجهه بكل ما فيه من قُوى الادراك والاستبصار. وهذا النوع من المعجزات لا يقع من الناس موقعا متقاربا، وإنما يلقاه كل انسان بما لديه من إدراك وفهم، والقدرة على التفريق بين الخير و الشر. و معجزة القرآن من هذا النوع. فقد جاءت معجزة خاتم المرسلين "معجزة عقلية فكرية بلاغية، تناسب كون هذه الرسالة جاءت للنَّاس كافَّة ،وإلى الازمان عامّة...مرتكزة أساسا على عقل الانسان، فهو خاصية له وصفة ذاتية فيه، لا تزول ولا تتبدل"[xvi]. قال تعالى:﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾الحجر9.

فهي إذا تتوافق مع المرحلة التي وصلت اليها البشرية  (مرحلة البلوغ والنضج) التي تجاوزت كل محسوس و ملموس .وهو حجة على الناس كافّة قال المولى عزّ وجل:﴿  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾ سبأ28.

ومن مظاهر الاستعداد النفسي والعقلي في البيئة العربية تمهيدا للرسالة الخالدة، هي تلك الحركة الادبية التي وصلت إلى ذروتها ،كتباري الشعراء والخطباء في الاسواق الادبية، وتعليق نتاجهم الشعري المتميز على باب الكعبة تبركا بها والاشادة  بمْن نبغ منهم ،فلم يكن للعرب غير الكلمة تُلطف أجواءهم وتأسـر ألبابهم وتهيـم بخيالهم و تقطع بهم وهج ورمضاء شبه الجزيرة العربية حتى لا يجدون نداها بين أضلاعهم ،فهي الحِمْلُ الخفيف والسّلوة إذا عزّ الانيس. نعم لقد  أُوحي إلى النبي وقد ملك القوم أعنّة القول البليغ و لهم فيه القدح المعلّى. "ولا ريب في أنّ القرآن أدهش العرب. وذلك لما وجدوا فيه من سحر البلاغة والتأثير في النفوس سواء  المنكرة له أو المؤمنة به. ولهذا حار المشركون في وصفه.. فصاروا  يصدون عنه وينأون عنه، ويصفونه مرة بأنه شعر، ومرة بأنّه سحر، ولم يستطع فصحاؤهم انكار روعته في النفوس وتغلغله في القلوب"[xvii]،وهذا الوليد بن المغيرة يشهد مخيرا غير مكره قائلا:" ووالله إنّ لقوله الذي يقول حلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، و إنّه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته. نعم يعترف بهذا وهو منْ هو في قومه، ولكنّ عناده وكبره؛ وتحت ضغوط المشركين من قومه دفعه أن يجحد بلسانه ما استقر في وجدانه. وهكذا لاح مفهوم التحدي في أفق صحراء قاحلة إلّا من نور محمد) (T و معجزته  التي أيده الله جلّ شأنه بها والتي قال فيها أبو القاسم ) (T:" ما من نبيّ من الانبياء إلا وأوتيَ من الآيات ما مِثْلُه آمن عليه البشر ..وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحي إلي، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة".

                                 

مفهوم التحدي: لقد أنكر كفار قريش على سيدنا محمد) (T  الرسالة واتهموه بالكذب ،ونعتوه بالسحر قال تعالى:﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾المدثر24 ،ووصفوه بالجنون، وقال قائلهم  بأنه شاعر، ولم يكتفوا عند هذا الحد بل تحدّوه على أنهم قادرون على أن يأتوا بمثله لو أرادوا، وجاء الوحي يتحداهم أن يأتوا بكتاب من عند الله قال تعالى:﴿ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ القصص49.فلما لم يستجيبوا تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله، ثم تدّرج معهم إلى سورة قال سبحانه:     ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾البقرة23.ثم غلق الباب واثبت عجزهم في الحاضر وفي المستقبل قالى تعالى:﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾البقرة24.وهكذا دعوى التحدي ظلت قائمة طيلة نزول الوحي وبعده بل هناك من إدعى النبوة بعد انتقال الحبيب) (T إلى الرفيق الاعلى  كمسيلمة الكذّاب وقد تنبأ باليمامة ومما سُجِل عليه(الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل،له ذنب وبيل،وخرطوم طويل)- (ياضفدع يا بنت ضفدعين نقي ما تنقّين،نصفك في الماء ونصفك في الطين،لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين) ،كلام تمجّه الاسماع وترفضه الاذواق ، ومنهم أيضا طليحة الاسدي ،وسجاح بنت الحارث التميمية ،وعبهلة بن كعب الملقب بالاسود العنسي الذي تنبأ باليمن ،والجميع لم تسعفهم قرائحهم مجاراة القرآن ، فسقطت اقنعة المشركين وأبانت زيف إدعائهم.

ولقد اتفق كل منْ كتبوا في الاعجاز على أنّ القرآن معجزة وأنه دليل النبوَّة،وقد نال هذا الشرف دون غيره من الكتب السماوية،لأنَّ نظمها ليس معجزا وإن كان ما يتضمنه من الاخبار عن الغيوب معجزا،وليس القرآن كذلك لأنه يشاركها في هذه الدلالة ويزيد عليها في أن  نظمه معجز"[xviii].

                             

منهجية الدراسة في الاعجاز:

      ليس المراد من هذا المحور الوقوف على مناهج اللغة كالمنهج الوصفي، والتاريخي الفيلولوجي، والتحليلي والمقارن ،والتقابلي وإنّماالغرض هو الوقوف على طريقة المؤلفين في تحديد وجوه الاعجاز لانّ الاعجاز في ذاته لا خلاف فيه ،والسؤال الذي يطرح نفسه؛ لماذا لم يتكلم في موضوع الاعجاز أحد من علماء السلف كابن عباس أو غيره من العلماء؟، ولعل الجواب هو تهيبهم وحرصهم مِن أن يتكلموا بغير المراد منه، وصونا للقرآن أن يكون غرضا للآراء والأهواء.

                  

1-وجوه الاعجاز عند القدماء  :   لقد بدأت الاشارات الاولى على يد أبي عبيدة(110-209ه)في كتابه (مجاز القرآن)والفراء (ت207ه)في كتابه(معاني القرآن) ولكنّها كانت دراسة لغوية بيانية أكثر منها في الاعجاز غير أنّه حدث شبه اجماع العلماء على أنّ أول من تكلّم في الاعجاز هو  إبراهيم بن سيّار النّظام المعتزلي (ت224ه) شيخ الجاحظ وقال بالصَّرفة(أي بأنَّ الله أفقدهم القدرة على المعارضة أو سلبهم العلوم التي يمكن أن تعينهم على نظم كلام مضارع للقرآن ولولا ذلك لكان في مقدورهم الاتيان بمثله) وقد قال بهذا الرأي بعض من علماء المعتزلة  منهم واصل بن عطاء البصري (ت131ه)،والجاحظ والرماني وابن سنان الخفاجي (ت466ه) وبعض علماء السنة  منهم الامام الماوردي البصري الشافعي(ت450ه) الجويني الشافعي (ت478ه)والغزالي الطوسي الشافعي (ت505ه) والرازي الشافعي (ت606ه) وشمس الدين الاصبهاني الشافعي (ت749ه) والفقيه أحمد الخطيب الشربيني الشافعي (ت977ه) وابن حزم الظاهري(ت456ه) وابراهيم الانصاري المعروف بابن سراقة المالكي (ت662ه) وابن جزي الكلبي الغرناطي المالكي (ت749ه) وشمس الدين بن سليمان التركي المعروف بابن كمال باشا الحنفي (ت 940ه)أمّا علماء الشيعة فمنهم الشريف المرتضي الكاضمي الشيعي (ت436ه)و نصر الدين الطوسي الشيعي (ت672ه) وتتلخص وجهات نظرهم في ثلاثة اتجاهات هي :

*ذهبوا إلى أن نظم القرآن ليس معجزا وإنما الصرفة هي المعجزة.وهما فريقان :الاول يرى أن الله عزّوجلّ سلبهم القدرة على المعارضة.الثاني:أن الله تعالى صرف قلوبهم وهممهم مع وجود جميع الامكانات لديهم للمعارضة.

*وهؤلاء يعتقدون أنّ نظم القرآن هوالمعجز الاعظم ،ولكنه ليس الوجه الوحيد للإعجاز ومنها الصرفة.

* وقسم ذهب إلى عدد من وجوه البيان والاسلوب والمعاني ،وقالوا أنّ الصرفة وجه ضعيف ولكن لا حرج من القول به على سبيل التنَزُّلِ في الجدل.

وقد أثبت العلماء المخلصون بالحجة والبرهان خطأ هذا الرأي وخروجه عن الجادة[xix].نذكر منهم الخطابي والباقلاني ،والقاضي عبد الجبار (ت415ه) ومنهم الجاحظ رغم أنّه أحد القائلين بها ،حيث ردّ على شيخه قائلا" فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي، وبلغت أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن، والرد على الطعان، فلم أدع فيه مسألة لرافضي، ولا لحديثي، ولا لحشوي، ولا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع، ولا لأصحاب النظام، ولمن نجم بعد النظام، ممن يزعم أن القرآن حق ،وليس تأليف بحجة، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة"[xx].و الشيء  الايجابي في فكرة الصَّرفة أنّها استثارت العقول والوجدان ودفعت بالعلماء إلى البحث  والتنقيب في وجوه الإعجاز ،فاهتدوا إلى بيان أسرار البلاغة في كتاب الله العزيز، فانقلب السحر على الساحر وكان في ثنايا الباطل الحق الابلج، وكما قيل في المثل "رُبَّ ضارة نافعة". وخير ما يرد به على هؤلاء قول الحق تبارك وتعالى:﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾الانعام25.

  • الجاحظ(ت255ه) فألّف و درس موضوع الاعجاز في كتاب مستقل(نظم القرآن) لم يصل الينا، وهو يرى أن الاعجاز كائن في نظمه وتأليفه وانتقد شيخه ،و الصَّرفة عنده ضرب من التدبير الإلهي، والعناية الربانية ،جاءت لمصلحة المسلمين[xxi] ،وبهذا يكون قد مهد الطريق أمام  الخطابي و عبد القاهر الجرجاني في بناء نظرية النظم.
  • ابراهيم الخطابي(ت388ه) ألف رسالته(بيان إعجاز القرآن) وملخص رأيه" واعلم أنّ القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الالفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أصح المعاني " [xxii] كما التفت إلى الاثر الذي يتركه سماع القرآن الكريم في النفس ،وجعله أحد وجوه الاعجاز. ويلاحظ على الخطابي أنه رفض القول بالصَّرفة، و كذا ما يتضمنه القرآن من الأخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان .
  • علي بن عيسى الرماني(ت386ه) ذكر في رسالته(النّكت في إعجاز القرآن) سبع أوجه للإعجاز  هي: * ترك المعارضة مع تـــوفر الدواعي وشدة الحاجة.

*التحدي للكافة.        

*الصَّرفة وهي عنده على وجهين،" منع داخلي ذاتي كائن في تركيب كل الانسان ،ومنع خارجي بفعل الله تعالى حيث صرفهم عن المعارضة وإن لم يكن في مقدورهم"[xxiii].

*البلاغة(أعلى -وسطى- أدنى)

 *الاخبار الصادقة المستقبلية.

*نقض العادة.

*وقياسه بكل معجزة. واختار البلاغة وأسهب في شرحها وجعلها ثلاث طبقات ،العليا هي بلاغة القرآن، ثم قسم البلاغة الى عشرة أقسام. والمأخذ الذي أخذه العلماء على الرّماني هو جعله الصَّرفة أحد وجوه الاعجاز؛ لانّ هذا يتناقض مع الوجه البلاغي الذي اعتمده.

  • أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني(ت403ه) متكلم أشعري، وفي كتابه(إعجاز القرآن) يذكر ثلاثة أوجه كالاتي:

     *الاخبار عن الغيوب.  *قصص الاولين وأخبار الماضين.

     *أنّه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة الى الحد الذى يُعلم عجز الخلق عنه"[xxiv]. ويخلص إلى أنّ البديع(كلّ المباحث والفنون البلاغية)ليست من وجوه الاعجاز ،وأنه أمر مختص بالقرآن ولا يوجد في كلام البشر.               

ولقد ظل دَيدَان العلماء في القرون التسعة الاولى على نفس الطرح ،وإن كان منهم من يعدد وجوه الاعجاز إلى عشرة كما فعل القرطبي(ت648ه)،وإلى اثني عشر وجها عند الزركشي(ت794ه) وقد لخص  جلال الدين السيوطي(ت911ه)جهود من سبقه في كتابيه (الاتقان في علوم القرآن) و(معترك الاقرن في إعجاز القرآن) ذكر أنّ بعض العلماء أنهى وجوه الاعجاز إلى ثمانين"[xxv] وقد رأى العلامة أنّه لا نهاية لوجوه الاعجاز أخذا برأي السّكاكي في المفتاح.

2- وجوه الاعجاز عند المحدثين : لقد عرف القرن الرابع عشر الهجري –العشرون ميلادي-حركة بحث  في موضوع الاعجاز وإبراز وجوهه وألفوا فيه أسفارا قيّمة وكان الدافع الرد على تلك الهجمة الشرسة التي قادها المستشرقون وما يحملونه من أفكار وضعية متجلية في مذاهب اجتماعية واقتصادية ورأسمالية واشتراكية مشككة في الدور الايجابي للدين  ،بل تلفيق التهم والشبهات للقرآن العظيم ولهذا تشكلت عندهم مجموعة من الاتجاهات منها:

الاتجاه الاول :أصحاب النزعة العلميةلقد أهتم هؤلاء بوجوه الاعجاز  من الناحية العلمية ،وقد كان لهذه النزعة جذور في تاريخ الفكر الاسلامي  عند أبو حامد  الغزالي  والقاضي عياض، وابن رشد والامام فخر الدين الرازي ولكنها اشتدت في هذه الفترة  وهي محاولة للتوفيق بين القرآن والعلم  ،غير أن هناك منْ بالغ لحدِّ الاسراف وتحميل النص ما لا يحمله كطنطاوي جوهري في كتابيه(تفسير الجواهر-والقرآن والعلوم العصرية) ومنهم أيضا مهدي الاستامبولي(دين الغد: معجزات القرآن الكريم في العلم والسياسة الاجتماع). وفرقة  ثانية التزمت الاعتدال في الطرح ولم يستشهدوا الا بالمسلم به من المقررات العلمية  المتطابقة مع النصوص القرآني  كالشيخ الامام محمد عبده –رحمه الله-والشيخ محمد رشيد رضا (تفسير المنار)وكعلي فكري(القرآن ينبوع العلوم والعرفان)  وكالشيخ متولي الشعراوي (معجزة القرآن) بل هناك من المستشرقين منْ لزموا الاعتدال(موريس بوكاي)في كتابه(دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة).

الاتجاه الثاني :هناك من العلماء من اختار حصر وجوه الاعجاز  في عناوين رئيسية تنضوي تحتها معظم تلك الوجوه ،فجعلوها  ثلاثة أقسام على النحو التالي:

"*الاعجاز اللغوي (البياني).وهو الذي وقع من جهته التحدي بالقرآن جملة وتفصيلا.

*الاعجاز العلمي.

*الاعجاز التشريعي التهذيبي الاجتماعي"[xxvi].

                  

الاتجاه  الثالث أصحاب النزعة الادبية: يقصر الاعجاز على الجانب البياني من القرآن لأنه الوجه الذي يبرز فيه التحدي أما ما فيه من حقائق علمية وأخبار الامم السابقة وكل الغيبيات هي دلائل نبوة المصطفى وأنّ هذا الكتاب هو من عند الله عزّ وجلّ ،نذكر من هؤلاء مصطفى صادق الرافعي في كتابه(إعجاز القرآن) حيث يركّز على إعجاز القرآن بموسيقية آياته، والحس الروحي الذي يبعثه في نفس قارئه، وأمين الخولي في كثير من أعماله( البلاغة وعلم النفس-بحث البلاغة العربية وأثر الفلسفة فيها-التفسير معالم حياته ومنهجه اليوم) وهو ينتقد التفسير العلمي، وكذلك فعل الشيخ محمود شلتوت شيخ الازهر الاسبق –رحمه الله- ونعتقد أن موقفهم هذا المتشدد من أجل سدّ الباب أمام الغلاة، ونذكر محمد عبد الله الدراز في كتابه(النبأ العظيم) حيث يقول" لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات، وفي أساليب ترتيبه معجزات، وفي نبوءاته الصادقة معجزات، وفي تشريعاته الخالدة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات ومعجزات فلعمري أنه في ترتيب آيه على هذا الوجه، لهو معجزة المعجزات"[xxvii] والعالم الشهيد سيد قطب حيث يقول:" إن إعجاز القرآن أبعد مدى من إعجاز نظمه ومعانيه، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله، وهو عجز كذلك عن إبداع منهج كمنهجه يحيط بما يحيط به"[xxviii] ونذكر عائشة عبد الرحمان في كتابها (الاعجاز البياني لقرآن ومسائل ابن الازرق) وهي تلخص قولها " وقصارى ما اطمأننت إليه في هذه المحاولة لفهم إعجاز القرآن الكريم، هو أنه ما من لفظ فيه أو حرف يمكن أن يقوم مقامه غيره ،بل ما من حركة أو نبرة لا تأخذ مكانها من ذلك البيان المعجز"[xxix].

الاتجاه الرابع :وهذا الوجهة ترى أن الاعجاز كامن في المعان السامية للقرآن وتشريعه الحكيم  والقيم الحضارية التي ينطوي عليها منهجه ،فالقرآن معجزة لما في رسالته من تعليمات عليا، وغايات نبيلة، وأغراض شريفة، وأهداف سامية. ومنْ قال بهذا الرأي يتساءل لو كان  إعجاز القرآن في فصاحته وبلاغته فحسب ؛كيف آمن به مِن غير العرب؟[xxx]

خاتمة: وكخلاصة لهذا البحث نختم بها  فنقول إنّ الإعجاز هو ترجمة حقيقية  لسمة القرآن الدائمة ،ومن إعجازه أنّ الحديث عنه لا ينتهي، ورغم  ما كُتب فيه قديما وحديثا ،سواء كانت جهود فردية أو جماعية (مؤسسات)فإنهم لم يصلوا فيه إلى ساحل .ولهذا وجدنا الدكتور فاضل السامرائي يقول: " إنّ أمر القرآن عجيب. يراه الاديب معجزا، ويراه اللغوي معجزا، ويراه أرباب القانون والتشريع معجزا، ويراه علماء الاقتصاد معجزا، ويراه المرَبُّون معجزا، ويراه علماء النفس والمعنيون بالدراسات النفسية معجزا، ويراه علماء الاجتماع معجزا، ويراه المصلحون معجزا، ويراه كل راسخ في علمه معجزا"[xxxi].بل وجدنا الدكتور أحمد رحماني في كتابه (نظريات الإعجاز القرآني)  يطلق على وجوه الإعجاز مصطلح نظرية ويدعو إلى مفهوم تضافر أوجه الإعجاز من أجل الوصول إلى تكامل في فهم النص القرآني مستثمرة بذلك كل الخبرات والمواهب والقوانين العلمية في إطار نظرية المعرفة الاسلامية.

وصدق الله تعالى القائل في محكم تنزيله: ﴿ ألم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾  البقرة.

 

 

الهوامش

[i] - الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير ،الدار التونسية للنشر،1984،ج/1،ص101.

[ii] -نعيم الحمصي ،فكرة اعجاز القرآن من البعثة النبوية الى عصرنا الحاضر ،مؤسسة الرسالة بيروت ، 1980،ط/2 ،ص7.

[iii] -الجوهري( اسماعيل بن حماد)، الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، ت-أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، القاهرة، ط/1،1956،ج/3،ص883.

[iv] -الراغب الاصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، دار العلم،دمشق،2009،ط/4،ص547.

[v] -ابن فارس ،معجم مقاييس اللغة، ت عبد السلام هارون ،دار الفكر، ج/4،ص231.

[vi] -ابن منظور ،لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، ط/جديدة، ج/4،ص2816.

[vii] -زغلول راغب النجار، مدخل إلى دراسة الاعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية، دارالمعرفة،لبنان،2009،ط/1،ص142-143.

[viii] -السيوطي ،الاتقان في علوم القرآن ،ت الفضل ابراهيم، المملكة العربية السعودية،،ج/4،ص3.

[ix] -ابن خلدون ،المقدمة ،ت محمد درويش ،دار يعرب،دمشق،2004،ط/1،ج/1،ص204.

-عالقاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل ،ج/16،ص226.[x]

[xi] -الشريف الجرجاني- معجم التعريفات ،ت-المنشاوي، دار الفضيلة ،القاهرة ،مصر،ص30 رقم235،ص74 رقم683.

[xii] -مدخل الى دراسة الاعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية،ص142-143.

[xiii] -مناع القطان، مباحث في علوم القرآن ،مكتبة وهبة، القاهرة،،ص250.

[xiv] -محمد علي الصابوني ،البيان في علوم القرآن، دار الشهاب،ص89-90.

[xv] - مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن و البلاغة النبوية-تاريخ آداب العرب، دار الكتاب ط/2،ج/2،ص139.

[xvi] يوسف الحاج أحمد، موسوعة الاعجاز العلمي في القرآن والسنة، مكتبة دار ابن حجر، دمشق 2003،ط/2،ص18.

[xvii] -نعيم الحمصي ،فكرة إعجاز القرآن من البعثة النبوية الى عصرنا الحاضر ،مؤسسة الرسالة لبنان،1980،ط/2،ص17.

[xviii] -ابي بكر محمد بن الطيب الباقلاني، إعجاز القرآن ،ت محمد صقر ،دار المعارف ،ط/1 ص14.15.

[xix] -محمد ابو زهرة، المعجزة الكبرى القرآن، دار الفكر العربي،مصر،1998،ص81.

[xx] -الجاحظ، رسائل الجاحظ، ت عبد السلام هارون ،فصل من كتابه في خلق القرآن ،مكتبة الخنانجي،مصر،1979،ط /1،ج /3،ص287.

[xxi] -الجاحظ، كتاب الحيوان ،ت-عبد السلام هارون ،مكتبة مصطفى الحلبي، مصر،1966 ط/2،ج/4،ص79.

[xxii] - للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني ،ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ،ت زغلول سلام ،دار المعارف ،القاهرة ،ط/3،ص27.

[xxiii] - ابراهيم بن منصور التركي،القول بالصفة في القرآن الكريم ،مجلة أم القرى لعلوم اللغات وآدابها، العربية السعودية،العدد الثاني،رجب1430ه/2009،ص167.

[xxiv] -الباقلاني ،إعجاز القرآن، ت –أحمد صقر ،دار المعارف ،مصر ،ص33-35.

[xxv] -السيوطي ،معترك الاقران في اعجاز القرآن، دار الكتب العلمية ،لبنان، 1988،ط ،/1 ، مج/1،ص5.

[xxvi] -عبد الله الدراز ،النبأ العظيم ،دار القلم،الكويت،ص79

[xxvii] -نفس المرجع ،ص211.

-السيد قطب ،في ظلال القرآن، دار الشروق، مصر، ط/32،2003م،مج/4،ص2250.[xxviii]

[xxix] -عائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ ،الاعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الازرق ،دار المعارف القاهرة ط/3،ص286.

-د غانم قدوري الحمد،محاضرات في علوم القرآن،دار عمار،عمّان،ط/1،  2003 ،ص250.[xxx]

[xxxi] - د-فاضل صالح السامرائي، التعبير القرآني ،دار عامر ،عمان، ط/4،2006ص20.

المخطوطات ...واقع، ومعاناة

 

أ. أحمد بن الصغير

مركز البحث في العلوم الإسلامية والحضارة بالأغواط.


 

يحتل التراث المخطوط قيمة فنية وتاريخية ومعرفية كبيرة في حقل التراث العالمي، وتعتبر المخطوطات مصدرا خامًا من مصادر المعرفة الإنسانية، لما تحمله في طياتها من صور نابضة للتجربة البشرية بمختلف أوجهها، وإلى عهد غير بعيد في التاريخ – وبالتحديد قبل ظهور الطباعة  في أوروبا، وفي عدة أصقاع من العالم بصور متباينة – كانت المخطوطات أو بالأحرى النّساخة – وهي عمل النساخ والوراقين – هي الطريقة المثلى لتقييد المعارف ونشرها، وكانت النساخة حرفة لها رجالها، ودواوينها، وكتبها المتخصصة في الشرق والغرب.

وجدير بالذكر هنا أن الأمة العربية والإسلامية أولت هذه الحرفة مكانة خاصة ومقدسة لارتباطها في وقت مبكر بنسخ القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

ولقد أخذت المخطوطات تتكاثر بصورة تتابعية حلزونية تبدأ بالنسخة المركزية التي هي النسخة الأم، لتتلوها النسخ الفرعية كنسخ السماع والمقابلة والنسخ المنقولة من الأصل وصولا إلى النسخ المتأخرة وهكذا.....، ولعل ما يهمنا في هذا البحث الموجز ليس كيفية نسخ المخطوطات وتقاليدها، وسبل نشرها وتسويقها لأن هذا شأن آخر من عمل المنشغلين بحقل دراسة تطور المخطوطات وحياتها، ولكن الذي يهمنا هو إلقاء نظرة سريعة على هذا العالم الواسع –تعريفا وتحديدا- مع تبرير الأهمية التي يكتسيها المخطوط ضمن الحقل المعرفي العام، لنعرج على ما يؤثر عليه وعلى هلاكه من العوامل، ولابد لنا بعدُ من استعراض حالة المخطوط في ملكية الخواص وفي الخزائن العائلية.

 

تعريفات المخطوط بين التحديد والاختلاف:

لم تكن كلمة "مخطوط" أو "مخطوطة" –المستخدمة حاليًا- معروفة منذ القديم إطلاقا بمعناها اللغوي أو الاصطلاحي، إذ أطلقت أسماء واصطلاحات أخرى عُرفت المخطوطة من خلالها، وقد استخدم بدلا عنها مصطلحات عدة منها: ( كتاب-سفر-مجلد-رسالة-جزء....)[i].

والغريب أن المعاجم العربية القديمة مثل: "لسان العرب"، و"تاج العروس"، و"الجمهرة"، و"تهذيب اللغة"، لم تورد هذه الكلمة ضمن موادها، وبذلك لم تتعرض لها بالشرح الوافي.

أما ما جاء في كتاب "أساس البلاغة" للزمخشري من استخدام هذه الكلمة في قوله: "خطط، خط الكتاب يخطه في تفسيره لقوله تعالى: ﱡﭐ  ﱻ ﱼ ﱽﱾ  ﱠ[ii] ، و"كتاب مخطوط"، فهو لا يعني بهذا المصطلح ما نطلقه اليوم على الكتاب المخطوط بخط اليد، بل إنه يعني مكتوب أي منسوخ، أي اسم المفعول من: خطّ، فضلا عن هذا أوضح البستاني في محيطه: ( أن كلمة المخطوط مأخوذة من خط بالقلم وغيره، خط، يخط، خطا: كتب، أي صور اللفظ بحرف هجائية )[iii].

         وقد ظهرت كلمة مخطوط في العصر الحديث لتقابل كلمة مطبوع، بعد دخول الطباعة إلى معترك الحياة[iv]

         هذا على الجانب اللغوي، أما في جانب الاصطلاح فالمخطوط لم يقف أيضا على تعريف اصطلاحي محدد، عدا بعض الاجتهادات التي تقارب تعريفه، وتبحث عن تحديده، ( وقد عرف بعضهم المخطوطات على أنها: مؤلفات العلماء ومصنفاتهم، وقال أنها: لفظة محدثة بعد حدوث الطباعة، لهذا لا تجد ذكرا لهذه الكلمة " المخطوط" أو " المخطوطات" في كلام المتقدمين، وإنما حدث هذه اللفظة بعد دخول الطباعة، فأصبحت الكتب تقسم إلى قسمين: مخطوطات/ مطبوعات)[v].  

و هنا يحدث الفرق فما كان مكتوبا بخط اليد سمي مخطوطا، وما طبع سمي مطبوعا تمييزا عن الأول.

وقد اختلف أهل الفن في تعريف ( المخطوط ) بعد حدوث هذه اللفظة، فقال بعضهم: ( ما كتب بخط اليد قبل دخول الطباعة )، وقيل غير ذلك. وهذا التعريف عار من الدقة، وذلك لارتباطه بقيد غير مؤسس، وهو قولهم: (..قبل دخول الطباعة )، أي قبل ظهورها مطلقا، فالطباعة وجدت منذ خمسمائة عام..، وعلى هذا تخرج من التعريف آلاف المخطوطات الإسلامية المنسوخة والمكتوبة بعد ذلك التاريخ.

بل إن بعض أنواع الطباعة – وهو الطباعة على الألواح- قد كان في الصين قبل نحو ألف سنة، وإن أرادوا بقولهم ذلك: قبل دخولها العالم الإسلامي، أو في الدول العربية، فهذا غير مسلم به كذلك، ولا هو منضبط ، فدخول الطباعة في الدول العربية والإسلامية متفاوت تفاوتا كبيرا، فالطباعة في بعضها منذ نحو مائتي عام، والبعض الآخر لم يعرف المطابع إلى اليوم، كما أن هذا القيد بالإضافة إلى اضطرابه وعدم وضوحه، لا فائدة منه ولا من التمسك به.

هناك تعاريف أخرى أيضا ارتبطت بعدة قيود لن تزيد المصطلح إلا تعقيدا، أما ما نختاره من بينها جميعا فالتعريف القائل أن المخطوط هو: ( ما كتب باليد مطلقا، من غير تقييد لا بطباعة ولا غيره ).

وعلى حديّ هذا التعريف تصبح مسودات الشعراء، ورسائل الإخوان، وغيرها كلها مخطوطات – وإن كتبت في عصر الطباعة والرقمنة-.

 

 أهمية المخطوطات:

تكاد أهمية المخطوطات لا تنحصر، وذلك لارتباطه بعدة حقول معرفية، فهي تاريخ حافل، وفن خالد، وعلم واسع، وأدب راسخ، وحجة ثابتة، وشهادة قائمة ودليل ظاهر...، غير أني أحاول أن أحصر بعض نقاط أهميتها فيما يلي:

  • المخطوطات وعاء لحفظ العلم الصحيح، والمعرفة المتوارثة،
  • المخطوطات شواهد للفن والجمال، وحسن الصناعة، ورقي الحضارة،
  • المخطوطات تأريخ للحوادث، وبيان للوقائع الغابرة،
  • المخطوطات صورة من صور رقي المشاركة الأدبية لبني الإنسان.
  • الوثائق المخطوطة يمكن أن تكون وسيلة للحجة القانونية، وشهادة لتصديق المعلومة أو تفنيدها، ودليل ظاهر على ذلك كله.

 

العوامل المؤثرة على المخطوط:

        يمكننا أن نرصد العديد من العوامل المؤثرة على المخطوط والمؤدية إلى فنائه في آخر المطاف في هذه النقاط:

  • الضوء،
  • الهواء، سواء في علو رطوبته، أو شدة جفافه،
  • التغيرات الفجائية في درجات الحرارة،
  • الرطوبة ( الندى )،
  • الأتربة والغبار،
  • زيادة الغازات الضارة في الهواء مثل ثاني أوكسيد الكربون، والأزوت،
  • الطفيليات والفطريات، والحشرات،
  • الكوارث الطبيعية،
  • العامل البشري على كل مستوياته.

 

المخطوطات في المؤسسات الرسمية:

إن مهمة حماية التراث المادي واللامادي للأمة يناط بالدرجة الأولى للدولة لارتباطه الوثيق بمعالم هويتها، ويعتبر التراث المخطوط أحد أهم عناصر التراث وأولاها بالحماية، ولذلك فقد ضمت المكتبات الوطنية عبر العالم لكل دولة في مجموعاتها أعدادا من المخطوطات والنفائس سواء منها نلك المؤرخة للتاريخ القومي للأمة أو حتى لتاريخ غيرها من الأمم .

وفي الجزائر نجد في المكتبة الوطنية عددا هائلا من المخطوطات، ناهيك عن مجموعات المخطوطات في المتاحف الوطنية كمجموعة متحف الجيش ومتحف قسنطينة والمتحف الوطني للآثار بولاية سطيف....، ويوجد أيضا بوزارة الشؤون الدينية الجزائرية مجموعة لا بأس بها من المخطوطات هي في الحقيقة من عوائد أوقاف المساجد التي عملت الوزارة على جمعها والحفاظ عليها.

وتعمل الدولة من خلال مؤسساتها على حماية التراث المخطوط من العديد من العوامل التي قد تؤدي به إلى التلاشي والزوال، كما تجتهد العديد من الجهات الوصية، في جمع المخطوطات وفهرستها مثل ما فعل المركز الوطني للمخطوطات بأدرار في فهرسته لمخطوطات ولاية أدرار، أو ما قام به المركز الوطني للأرشيف بالعاصمة، و مؤخرا أنشأت الدولة متحفا وطنيًا خاصًّا بالمخطوطات الاسلامية أفتتح بمناسبة فعاليات احتفالية تلمسان عاصمة للثقافة الاسلامية في مارس 2011م، بجامع سيدي أبو الحسن بمدينة تلمسان، لعله سيَعِد بعملِ وطني في هذا المجال.

وعلى أية حال فبالرغم مما قد يوجه للدوائر الرسمية من إهمال أو تقصير في حماية المخطوط فإن هذا التراث يظل بمأمن كبير عندها إذا ما قارننا حاله في مواطن أخرى بالطبع لا نقصد بها غير الجهات الخاصة، وما يتهدده فيها من المخاطر.

 

المخطوطات في خارج المؤسسات الرسمية:

يمكننا أن نرصد العديد من المواقع التي تعتبر من الأماكن التي تحتفظ بالمخطوطات، خارج الدوائر الرسمية ومنها:

  • أوقاف المساجد:

  تعتبر سنة الوقف من السنن الحميدة عند المسلمين حيث كان النساخ والعلماء والحكام والأمراء وحتى عامة الناس يتنافسون قي وقف الكتب وتحبيسها على مكتبات الزوايا والمساجد وأضرحة الصالحين، وكانت المساجد هي الأوفر حظًا من هذه التحبيسات وقد كانت العادة أنه إذا ما توفي عالم من العلماء ولم يترك من العقب من يخلفه في علمه نقلت تركته العلمية كاملة إلى أحد المساجد وحبست عليه، وربما أوصى هو بذلك فيعمل بوصيته، والحقيقة أن وجود المخطوطات في رفوف المسجد في متناول الجميع مما يعرضها للتلف بسبب اختلاف الأيدي عليها لعدم وجود قيّم على هذه المكتبات في الغالب، ناهيك عن تعرّضها غالبًا للسرقة إذا ما صادف ووقعت في يد من لا يتورع في سرقتها، كما أن من المخاطر التي تعترضها أحيانا وقوعها في أيدٍ جاهلةٍ تختلف مع مضامينها "إديولوجيا" فتتلفها عمدًا على أنّها من آراء ومخلفات الفرق الضّالة دون مراعاة العلميّة والأمانة التي توجب حفظها مهما كان.

 

  • مكتبات الزوايا:

الزوايا بصفتها مؤسسات اجتماعية وثقافية ودينية وعلمية كانت في الغالب تحتفظ بخزائن من المقتنيات والكتب والمؤلفات، تساعد بها طلبتها على التحصيل والمعرفة، وقد كانت بعض الزوايا تفخر بعدد المخطوطات الذي تضمه مكتباتها ومن هذه الزوايا الزاوية التيجانية بعين ماضي بالأغواط التي كانت المخطوطات تأتيها من قبل مريديها من مختلف جهات الوطن بل وحتى من المغرب وموريتانيا وإفريقيا حيث ينتشر لها ملايين الأتباع، وقد ذكر الأمير عبد القادر الجزائري في مذكراته لهنري تشرشل (( أن محمد الحبيب التجاني[vi] كانت له مكتبة بديعة قلما يوجد لها نظير[vii]))، ومن الزوايا التي اشتهرت بمكتباتها الغنية بالمخطوطات الزاوية القاسمية بالهامل ببوسعادة، والزواية الحملاوية بولاية ميلة، وزاوية الشيخ الموهوب أولحبيب ببجاية، ومكتبة زاوية علي أوموسى بتيزي وزو، وزاوية علي بن عمر العثمانية بطولقة ببسكرة، وزاوية تمنطيط بأدرار....

وعلى الرغم من التواصل بين الأحفاد والأجداد في الزوايا الذي يقوم على التوريث والخلافة والذي كان يُنتظر أن يُفضي إلى التواصل في المسؤولية بالحفاظ على إرث الأجداد، فإن هذا النظام جنى بشكل عكسي على التراث المخطوط وأدّى إلى اقتسام التركات العلميّة أحيانًا وتوزيعها والتّصرف فيه بغير وجه حق، بدعوى الحق المشترك فيها، وقد أدّى وقوع المخطوط عند من لا يعرف قدرَه وقيمته إلى الإضرار به وضياعه وتلفه وتلاشيه، ومن مكتبات الزوايا الكثيرة التي تلاشت ودرست مكتبة سيدي امحمد العربي المكنى بالشيخ بن شاعة الشريف[viii] –رحمه الله- بوادي الجمعة بنواحي ولاية غيليزان وهي التي ذكرها المسشرق الفرنسي :Emile dermenghem  في كتابه :  le pqys d.abel ووصفها على أنها مكتبة بديعة تضم العديد من النفائس[ix] لكنها الآن لم يعد تذكر لأسباب مجهولة، ومن هذه المكتبات أيضا مكتبة الزاوية التيجانية بعين ماضي التي تناهبها الورثة، وبيع أغلب نفائسها واندثر. 

 

  • مكتبات العلماء :

يحرص أهل العلم في مختلف أنحاء العالم على أن تكون لهم مكتباتهم الخاصة التي تضم أمهات المراجع وعيون العلوم كل في تخصصه وفنه، وتكون المخطوطات في المكتبات بمثابة التاج الذي يرصع الرأس ويفضل مختلف المقتنيات، ولا زلنا نعرف في العالم العربي الكثير من الأعلام الذين حوت مكتباتهم النفائس حتى غدت من المضان المعروفة للبحث، ومن أشهر المكتبات العربية الخاصة مكتبة أحمد تيمور باشا بمصر، أما عندنا بالجزائر فمن المكتبات التي ضمت النفائس مكتبة قطب الأئمة امحمد بن يوسف اطفيش[x] ببني يسقن وهو أحد أعلام المذهب الإباضي وكان -رحمه الله- يحرص على اقتناء الكتب من مختلف الأصقاع حتى أنه كان غالبا ما يوصي التجار والحجيج أن يجلبوا له الكتب من الشرق العربي، وقد جمع مكتبة هائلة عمد أحفاده على صيانة ما بقي منها ففتحت للزوار والباحثين حتى غدت قبلة للمهتمين يقصدونها من مختلف الجهات. 

 

  • مكتبات الخواص ومجموعات الهواة:

هناك فئة من الناس على الرغم من أنها لم تصل مرتبة العلماء إلا إنا تعرف قدر العلم وتبذل في سبيل إعانة أهله طائل الأموال، فنجد الكثير من الخواص والهواة الذين فتح الله عليهم يجمعون المخطوطات بطرق متعددة ويضعونها في متناول الباحثين وهي سنة قديمة عند أهل الخير، وقد أشار العلامة عبد الله بن محمد العياشي[xi] صاحب الرحلة ((أن سلطان ورقلة الأمير علاهم قد رحب به وأكرمه وأدخله مكتبته، وجعلها تحت تصرفه))، ولا تزال هذه السنة الحميدة إلى اليوم عند بعض المحسنين وقد قطع فيها إخواننا المشارقة شوطًا كبيرًا فظهرت مؤسسات خاصة للتّراث المخطوط  مثل مؤسسة جمعة الماجد بالإمارات العربية المتحدة، كما أنشأت مواقع خاصة بالتصوير الرقمي للمخطوطات مثل ما فعل مركز "ودود" للمخطوطات العربية، ومركز المصطفى وغيره.....، وقد لا يكون الغرض من جمع المخطوطات عند هؤلاء علميا دائما كأن يكون نابعا عن حب وهواية لجمع التحف القديمة والتباهي بها وعرضها، وهنا يصبح المخطوط مهددا بالعديد من الأخطار أبسطها المتاجرة به وبيعه.

 

الخزائن الخاصة بين التفريط و الإفراط:

كما أسلفنا سابقا فإن الكثير من المخطوطات انتهى بها السبيل إلى التلف والضياع بسبب عدم المعرفة بقيمتها، وبسبب اختلاف الملكية لها واشتراك المسؤولية عليها، و تضافر العديد من أسباب الزوال عليها كما قيل:

اللصُّ يسرقُهــــــــــــــا

 

والفــأرُ يخرقُهــــــــــــا

والماءُ يُغرقُهــــــــــــــــــا

 

والنارُ تُفنيهـــــــــــَـــــــا

 

حتى أن بعضهم دعا إلى حفظ العلم، واعتماد الذاكرة، بدل جمع الكتب متعللا بوجود هذه الأخطار فقال:

 

عَلَيْكَ بالْحِفْظِ دُونَ الجمْعِ فِي كُتُبٍ

 

فَـــإِنّ للْكُتْبِ آفَــــاتٌ تُفَـــرّقُـهَا

النَّــــارُ تُحرِقُــــها والمـــــــاءُ يُغرِقُهـــــا

 

والفَأرُ يخْرِقُها واللّصّ يَسْرِقُهَا

 

 بالإضافة إلى هذا كله يعتبر الجهل هو الطامة الكبرى في هذا الجانب لأن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه، وقد حكي لي ممن أثق به أن أحد العلماء قضى نحبه وترك حفيده قيما على مكتبة ضخمة من المخطوطات – وكان هذا الحفيد جاهلا- فكان يمزق كتب جده ويلفها قراطيس للنسوة يتبركن بها مقابل دريهمات معدودة حتى جاء عليها كلها، ولم يبق غير أسفارها على الرفوف، ومن صور التفريط في المخطوطات عند الخواص عدم الإحاطة بطرق حفظها أو بالأحرى عدم توفر ما يساعدهم على الحفظ العلمي لها، مما يؤدي إلى تلفها ولا زلنا نحتفظ بصورة نهاية مأساوية لأحدى المكتبات في غرداية[xii] عندما أغرقها طوفان 2008 م، وذهب بكل نفائسها.

هذا في صور التفريط أما صور الإفراط فكثيرة أيضا ومنها التشديد على تركات الأجداد وعدم إطلاع الباحثين عليها والبخل بها وربما تجد بعضهم يملك العديد من المخطوطات التي تساعد العلماء في توثيق الحقائق وفك الرموز والألغاز ولكنه يظل مُصرًّا على عدم إطلاع الناس عليها، وربما برر خوفه من أن هذه المخطوطات تتضمن حقائق قد تشعل فتنا، أو أن يحتج بعض هؤلاء بأنه قد أخرج بعض هذه المخطوطات فسرق منه بعضها، أو استغلت فاستفاد منها غيره على الصعيد المادي، وهذا كله في الحقيقة مما لا يكذبه فيه عاقل إلا أنه ليس مما يدعو في الحقيقة إلى أن يصر على البخل بإرث حضاري هو ملك للأمة جمعاء قبل أن يكون ملكا خاصا له.

 

حلول مقترحة:

إننا أمام هذه الوضعية المعقدة مطالبون بإيجاد الحلول المناسبة وذلك قصد تدارك ما يمكن تداركه من هذا الإرث الحضاري والتراث الوطني، ولعلني أقترح مجموعة من الحلول التي قد تساهم في حماية هذه الكنوز وتحصيلها: 

 

  1. عمل الدولة على شراء المخطوطات النادرة على الأقل، ممن يرغبون في بيعها وتحصيلها لفائدة الموروث القومي الوطني.
  2. تفعيل التصوير الرقمي للمخطوطات والوثائق النادرة والتشجيع عليه والعمل على فهرسة المكتبات الخاصة للمخطوطات.
  3. خلق فرص تكوينية حقيقية لأصحاب المكتبات الخاصة في مجال التصوير الرقمي والفهرسة وفي طرق المحافظة على المخطوط وحمايته.
  4. إصدار ميثاق واضح المعالم بالنسبة للممتلكات الثقافية والفنية.
  5. التكثيف من الملتقيات المعرفية حول المخطوط ونشر الوعي بأهمية التراث وواجب الحفاظ عليه.

 

إنني حاولت جاهدا أن أُلمّ ببعض واقع التراث المخطوط على المستوى الخاص وما يلقاه تراثنا المكتوب بين مد الإفراط وجزر التفريط وأملي أن يعد لنا الغد بوجه مشرق يحفظ مختلف أطياف التراث الإنساني وينقله إلى الأجيال القادمة بأمانة وصدق. 

الهوامش:

[i] - محمد التونجي، المعجم المفصل في الأدب، دار صادر، بيروت، لبنان، ط3، 2001، ج2، ص123.

[ii] - من الآية 48 من سورة العنكبوت.

[iii] - محيط المحيط، بطرس البستاني، مكتبة لبنان، بيروت\ن لبنان، ط10، 1988، ج1، ص 558.

[iv] - مجلة "ينابيع"، العدد 23 ، ربيع الأول 1429هـ، ص 119.

[v] - نفسه، ص121.

[vi] - محمد الحبيب التيجاني، شيخ التيجانية وابن الشيخ التيجاني، كان المشرف على قصر عين ماضي أثناء حصار الأمير عبد القادر لها سنة 1842 م.

[vii] - هنري تشرشل، حياة عبد القادر، تر: أبوالقاسم سعد الله ، الدار التونسية للنشر، ط1، 1982، ص118.

[viii] - سيدي محمد العربي بن عبد الله المكنى بن شاعة، أحد شرفاء الغرب الجزائري، من تلامذة الشيخ أحمد بن يوسف الملياني وخاصته، تشتهر زاويته إلى الآن حيث ضريحه بنواحي وادي الجمعة بغليزان.

[ix] - Le pays d'Abel: le Sahara des Ouled-Naïl, des Larbaâ et des Amour Émile Dermenghem Gallimard,     1960 217 pages

[x] - الشيخ امحمد بن يوسف اطفيش الشهير بقطب أئمة الاباضية من علماء بني يسقن ( تـ: 1914م) وكان غزير التأليف جمع مكتبة منقطعة النظير، افتتحها أحفاده للقراء لا تزال إلى الآن قبلة للباحثين.

[xi]- ينظر: عبد الله بن محمد العياشي المغربي، الرحلة العياشية، تح: سعي الفاضلي، وسليمان القرشي، دار السويدي، الامارات، ط1، 2006، ص 119.

[xii]- من مآسي العلم بغرداية غرق وتلف العديد من المكتبات الثرية بالمخطوطات منها مكتبة الشيخ أحمد بوعامر المالكي، كان من بين محتوياتها مخطوط نفيس للشيخ عبد الرحمن الثعالبي ضاع أثناء فيضان أكتوبر 2008.



Back to top