المخطوطات ...واقع، ومعاناة

 

أ. أحمد بن الصغير

مركز البحث في العلوم الإسلامية والحضارة بالأغواط.


 

يحتل التراث المخطوط قيمة فنية وتاريخية ومعرفية كبيرة في حقل التراث العالمي، وتعتبر المخطوطات مصدرا خامًا من مصادر المعرفة الإنسانية، لما تحمله في طياتها من صور نابضة للتجربة البشرية بمختلف أوجهها، وإلى عهد غير بعيد في التاريخ – وبالتحديد قبل ظهور الطباعة  في أوروبا، وفي عدة أصقاع من العالم بصور متباينة – كانت المخطوطات أو بالأحرى النّساخة – وهي عمل النساخ والوراقين – هي الطريقة المثلى لتقييد المعارف ونشرها، وكانت النساخة حرفة لها رجالها، ودواوينها، وكتبها المتخصصة في الشرق والغرب.

وجدير بالذكر هنا أن الأمة العربية والإسلامية أولت هذه الحرفة مكانة خاصة ومقدسة لارتباطها في وقت مبكر بنسخ القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

ولقد أخذت المخطوطات تتكاثر بصورة تتابعية حلزونية تبدأ بالنسخة المركزية التي هي النسخة الأم، لتتلوها النسخ الفرعية كنسخ السماع والمقابلة والنسخ المنقولة من الأصل وصولا إلى النسخ المتأخرة وهكذا.....، ولعل ما يهمنا في هذا البحث الموجز ليس كيفية نسخ المخطوطات وتقاليدها، وسبل نشرها وتسويقها لأن هذا شأن آخر من عمل المنشغلين بحقل دراسة تطور المخطوطات وحياتها، ولكن الذي يهمنا هو إلقاء نظرة سريعة على هذا العالم الواسع –تعريفا وتحديدا- مع تبرير الأهمية التي يكتسيها المخطوط ضمن الحقل المعرفي العام، لنعرج على ما يؤثر عليه وعلى هلاكه من العوامل، ولابد لنا بعدُ من استعراض حالة المخطوط في ملكية الخواص وفي الخزائن العائلية.

 

تعريفات المخطوط بين التحديد والاختلاف:

لم تكن كلمة "مخطوط" أو "مخطوطة" –المستخدمة حاليًا- معروفة منذ القديم إطلاقا بمعناها اللغوي أو الاصطلاحي، إذ أطلقت أسماء واصطلاحات أخرى عُرفت المخطوطة من خلالها، وقد استخدم بدلا عنها مصطلحات عدة منها: ( كتاب-سفر-مجلد-رسالة-جزء....)[i].

والغريب أن المعاجم العربية القديمة مثل: "لسان العرب"، و"تاج العروس"، و"الجمهرة"، و"تهذيب اللغة"، لم تورد هذه الكلمة ضمن موادها، وبذلك لم تتعرض لها بالشرح الوافي.

أما ما جاء في كتاب "أساس البلاغة" للزمخشري من استخدام هذه الكلمة في قوله: "خطط، خط الكتاب يخطه في تفسيره لقوله تعالى: ﱡﭐ  ﱻ ﱼ ﱽﱾ  ﱠ[ii] ، و"كتاب مخطوط"، فهو لا يعني بهذا المصطلح ما نطلقه اليوم على الكتاب المخطوط بخط اليد، بل إنه يعني مكتوب أي منسوخ، أي اسم المفعول من: خطّ، فضلا عن هذا أوضح البستاني في محيطه: ( أن كلمة المخطوط مأخوذة من خط بالقلم وغيره، خط، يخط، خطا: كتب، أي صور اللفظ بحرف هجائية )[iii].

         وقد ظهرت كلمة مخطوط في العصر الحديث لتقابل كلمة مطبوع، بعد دخول الطباعة إلى معترك الحياة[iv]

         هذا على الجانب اللغوي، أما في جانب الاصطلاح فالمخطوط لم يقف أيضا على تعريف اصطلاحي محدد، عدا بعض الاجتهادات التي تقارب تعريفه، وتبحث عن تحديده، ( وقد عرف بعضهم المخطوطات على أنها: مؤلفات العلماء ومصنفاتهم، وقال أنها: لفظة محدثة بعد حدوث الطباعة، لهذا لا تجد ذكرا لهذه الكلمة " المخطوط" أو " المخطوطات" في كلام المتقدمين، وإنما حدث هذه اللفظة بعد دخول الطباعة، فأصبحت الكتب تقسم إلى قسمين: مخطوطات/ مطبوعات)[v].  

و هنا يحدث الفرق فما كان مكتوبا بخط اليد سمي مخطوطا، وما طبع سمي مطبوعا تمييزا عن الأول.

وقد اختلف أهل الفن في تعريف ( المخطوط ) بعد حدوث هذه اللفظة، فقال بعضهم: ( ما كتب بخط اليد قبل دخول الطباعة )، وقيل غير ذلك. وهذا التعريف عار من الدقة، وذلك لارتباطه بقيد غير مؤسس، وهو قولهم: (..قبل دخول الطباعة )، أي قبل ظهورها مطلقا، فالطباعة وجدت منذ خمسمائة عام..، وعلى هذا تخرج من التعريف آلاف المخطوطات الإسلامية المنسوخة والمكتوبة بعد ذلك التاريخ.

بل إن بعض أنواع الطباعة – وهو الطباعة على الألواح- قد كان في الصين قبل نحو ألف سنة، وإن أرادوا بقولهم ذلك: قبل دخولها العالم الإسلامي، أو في الدول العربية، فهذا غير مسلم به كذلك، ولا هو منضبط ، فدخول الطباعة في الدول العربية والإسلامية متفاوت تفاوتا كبيرا، فالطباعة في بعضها منذ نحو مائتي عام، والبعض الآخر لم يعرف المطابع إلى اليوم، كما أن هذا القيد بالإضافة إلى اضطرابه وعدم وضوحه، لا فائدة منه ولا من التمسك به.

هناك تعاريف أخرى أيضا ارتبطت بعدة قيود لن تزيد المصطلح إلا تعقيدا، أما ما نختاره من بينها جميعا فالتعريف القائل أن المخطوط هو: ( ما كتب باليد مطلقا، من غير تقييد لا بطباعة ولا غيره ).

وعلى حديّ هذا التعريف تصبح مسودات الشعراء، ورسائل الإخوان، وغيرها كلها مخطوطات – وإن كتبت في عصر الطباعة والرقمنة-.

 

 أهمية المخطوطات:

تكاد أهمية المخطوطات لا تنحصر، وذلك لارتباطه بعدة حقول معرفية، فهي تاريخ حافل، وفن خالد، وعلم واسع، وأدب راسخ، وحجة ثابتة، وشهادة قائمة ودليل ظاهر...، غير أني أحاول أن أحصر بعض نقاط أهميتها فيما يلي:

  • المخطوطات وعاء لحفظ العلم الصحيح، والمعرفة المتوارثة،
  • المخطوطات شواهد للفن والجمال، وحسن الصناعة، ورقي الحضارة،
  • المخطوطات تأريخ للحوادث، وبيان للوقائع الغابرة،
  • المخطوطات صورة من صور رقي المشاركة الأدبية لبني الإنسان.
  • الوثائق المخطوطة يمكن أن تكون وسيلة للحجة القانونية، وشهادة لتصديق المعلومة أو تفنيدها، ودليل ظاهر على ذلك كله.

 

العوامل المؤثرة على المخطوط:

        يمكننا أن نرصد العديد من العوامل المؤثرة على المخطوط والمؤدية إلى فنائه في آخر المطاف في هذه النقاط:

  • الضوء،
  • الهواء، سواء في علو رطوبته، أو شدة جفافه،
  • التغيرات الفجائية في درجات الحرارة،
  • الرطوبة ( الندى )،
  • الأتربة والغبار،
  • زيادة الغازات الضارة في الهواء مثل ثاني أوكسيد الكربون، والأزوت،
  • الطفيليات والفطريات، والحشرات،
  • الكوارث الطبيعية،
  • العامل البشري على كل مستوياته.

 

المخطوطات في المؤسسات الرسمية:

إن مهمة حماية التراث المادي واللامادي للأمة يناط بالدرجة الأولى للدولة لارتباطه الوثيق بمعالم هويتها، ويعتبر التراث المخطوط أحد أهم عناصر التراث وأولاها بالحماية، ولذلك فقد ضمت المكتبات الوطنية عبر العالم لكل دولة في مجموعاتها أعدادا من المخطوطات والنفائس سواء منها نلك المؤرخة للتاريخ القومي للأمة أو حتى لتاريخ غيرها من الأمم .

وفي الجزائر نجد في المكتبة الوطنية عددا هائلا من المخطوطات، ناهيك عن مجموعات المخطوطات في المتاحف الوطنية كمجموعة متحف الجيش ومتحف قسنطينة والمتحف الوطني للآثار بولاية سطيف....، ويوجد أيضا بوزارة الشؤون الدينية الجزائرية مجموعة لا بأس بها من المخطوطات هي في الحقيقة من عوائد أوقاف المساجد التي عملت الوزارة على جمعها والحفاظ عليها.

وتعمل الدولة من خلال مؤسساتها على حماية التراث المخطوط من العديد من العوامل التي قد تؤدي به إلى التلاشي والزوال، كما تجتهد العديد من الجهات الوصية، في جمع المخطوطات وفهرستها مثل ما فعل المركز الوطني للمخطوطات بأدرار في فهرسته لمخطوطات ولاية أدرار، أو ما قام به المركز الوطني للأرشيف بالعاصمة، و مؤخرا أنشأت الدولة متحفا وطنيًا خاصًّا بالمخطوطات الاسلامية أفتتح بمناسبة فعاليات احتفالية تلمسان عاصمة للثقافة الاسلامية في مارس 2011م، بجامع سيدي أبو الحسن بمدينة تلمسان، لعله سيَعِد بعملِ وطني في هذا المجال.

وعلى أية حال فبالرغم مما قد يوجه للدوائر الرسمية من إهمال أو تقصير في حماية المخطوط فإن هذا التراث يظل بمأمن كبير عندها إذا ما قارننا حاله في مواطن أخرى بالطبع لا نقصد بها غير الجهات الخاصة، وما يتهدده فيها من المخاطر.

 

المخطوطات في خارج المؤسسات الرسمية:

يمكننا أن نرصد العديد من المواقع التي تعتبر من الأماكن التي تحتفظ بالمخطوطات، خارج الدوائر الرسمية ومنها:

  • أوقاف المساجد:

  تعتبر سنة الوقف من السنن الحميدة عند المسلمين حيث كان النساخ والعلماء والحكام والأمراء وحتى عامة الناس يتنافسون قي وقف الكتب وتحبيسها على مكتبات الزوايا والمساجد وأضرحة الصالحين، وكانت المساجد هي الأوفر حظًا من هذه التحبيسات وقد كانت العادة أنه إذا ما توفي عالم من العلماء ولم يترك من العقب من يخلفه في علمه نقلت تركته العلمية كاملة إلى أحد المساجد وحبست عليه، وربما أوصى هو بذلك فيعمل بوصيته، والحقيقة أن وجود المخطوطات في رفوف المسجد في متناول الجميع مما يعرضها للتلف بسبب اختلاف الأيدي عليها لعدم وجود قيّم على هذه المكتبات في الغالب، ناهيك عن تعرّضها غالبًا للسرقة إذا ما صادف ووقعت في يد من لا يتورع في سرقتها، كما أن من المخاطر التي تعترضها أحيانا وقوعها في أيدٍ جاهلةٍ تختلف مع مضامينها "إديولوجيا" فتتلفها عمدًا على أنّها من آراء ومخلفات الفرق الضّالة دون مراعاة العلميّة والأمانة التي توجب حفظها مهما كان.

 

  • مكتبات الزوايا:

الزوايا بصفتها مؤسسات اجتماعية وثقافية ودينية وعلمية كانت في الغالب تحتفظ بخزائن من المقتنيات والكتب والمؤلفات، تساعد بها طلبتها على التحصيل والمعرفة، وقد كانت بعض الزوايا تفخر بعدد المخطوطات الذي تضمه مكتباتها ومن هذه الزوايا الزاوية التيجانية بعين ماضي بالأغواط التي كانت المخطوطات تأتيها من قبل مريديها من مختلف جهات الوطن بل وحتى من المغرب وموريتانيا وإفريقيا حيث ينتشر لها ملايين الأتباع، وقد ذكر الأمير عبد القادر الجزائري في مذكراته لهنري تشرشل (( أن محمد الحبيب التجاني[vi] كانت له مكتبة بديعة قلما يوجد لها نظير[vii]))، ومن الزوايا التي اشتهرت بمكتباتها الغنية بالمخطوطات الزاوية القاسمية بالهامل ببوسعادة، والزواية الحملاوية بولاية ميلة، وزاوية الشيخ الموهوب أولحبيب ببجاية، ومكتبة زاوية علي أوموسى بتيزي وزو، وزاوية علي بن عمر العثمانية بطولقة ببسكرة، وزاوية تمنطيط بأدرار....

وعلى الرغم من التواصل بين الأحفاد والأجداد في الزوايا الذي يقوم على التوريث والخلافة والذي كان يُنتظر أن يُفضي إلى التواصل في المسؤولية بالحفاظ على إرث الأجداد، فإن هذا النظام جنى بشكل عكسي على التراث المخطوط وأدّى إلى اقتسام التركات العلميّة أحيانًا وتوزيعها والتّصرف فيه بغير وجه حق، بدعوى الحق المشترك فيها، وقد أدّى وقوع المخطوط عند من لا يعرف قدرَه وقيمته إلى الإضرار به وضياعه وتلفه وتلاشيه، ومن مكتبات الزوايا الكثيرة التي تلاشت ودرست مكتبة سيدي امحمد العربي المكنى بالشيخ بن شاعة الشريف[viii] –رحمه الله- بوادي الجمعة بنواحي ولاية غيليزان وهي التي ذكرها المسشرق الفرنسي :Emile dermenghem  في كتابه :  le pqys d.abel ووصفها على أنها مكتبة بديعة تضم العديد من النفائس[ix] لكنها الآن لم يعد تذكر لأسباب مجهولة، ومن هذه المكتبات أيضا مكتبة الزاوية التيجانية بعين ماضي التي تناهبها الورثة، وبيع أغلب نفائسها واندثر. 

 

  • مكتبات العلماء :

يحرص أهل العلم في مختلف أنحاء العالم على أن تكون لهم مكتباتهم الخاصة التي تضم أمهات المراجع وعيون العلوم كل في تخصصه وفنه، وتكون المخطوطات في المكتبات بمثابة التاج الذي يرصع الرأس ويفضل مختلف المقتنيات، ولا زلنا نعرف في العالم العربي الكثير من الأعلام الذين حوت مكتباتهم النفائس حتى غدت من المضان المعروفة للبحث، ومن أشهر المكتبات العربية الخاصة مكتبة أحمد تيمور باشا بمصر، أما عندنا بالجزائر فمن المكتبات التي ضمت النفائس مكتبة قطب الأئمة امحمد بن يوسف اطفيش[x] ببني يسقن وهو أحد أعلام المذهب الإباضي وكان -رحمه الله- يحرص على اقتناء الكتب من مختلف الأصقاع حتى أنه كان غالبا ما يوصي التجار والحجيج أن يجلبوا له الكتب من الشرق العربي، وقد جمع مكتبة هائلة عمد أحفاده على صيانة ما بقي منها ففتحت للزوار والباحثين حتى غدت قبلة للمهتمين يقصدونها من مختلف الجهات. 

 

  • مكتبات الخواص ومجموعات الهواة:

هناك فئة من الناس على الرغم من أنها لم تصل مرتبة العلماء إلا إنا تعرف قدر العلم وتبذل في سبيل إعانة أهله طائل الأموال، فنجد الكثير من الخواص والهواة الذين فتح الله عليهم يجمعون المخطوطات بطرق متعددة ويضعونها في متناول الباحثين وهي سنة قديمة عند أهل الخير، وقد أشار العلامة عبد الله بن محمد العياشي[xi] صاحب الرحلة ((أن سلطان ورقلة الأمير علاهم قد رحب به وأكرمه وأدخله مكتبته، وجعلها تحت تصرفه))، ولا تزال هذه السنة الحميدة إلى اليوم عند بعض المحسنين وقد قطع فيها إخواننا المشارقة شوطًا كبيرًا فظهرت مؤسسات خاصة للتّراث المخطوط  مثل مؤسسة جمعة الماجد بالإمارات العربية المتحدة، كما أنشأت مواقع خاصة بالتصوير الرقمي للمخطوطات مثل ما فعل مركز "ودود" للمخطوطات العربية، ومركز المصطفى وغيره.....، وقد لا يكون الغرض من جمع المخطوطات عند هؤلاء علميا دائما كأن يكون نابعا عن حب وهواية لجمع التحف القديمة والتباهي بها وعرضها، وهنا يصبح المخطوط مهددا بالعديد من الأخطار أبسطها المتاجرة به وبيعه.

 

الخزائن الخاصة بين التفريط و الإفراط:

كما أسلفنا سابقا فإن الكثير من المخطوطات انتهى بها السبيل إلى التلف والضياع بسبب عدم المعرفة بقيمتها، وبسبب اختلاف الملكية لها واشتراك المسؤولية عليها، و تضافر العديد من أسباب الزوال عليها كما قيل:

اللصُّ يسرقُهــــــــــــــا

 

والفــأرُ يخرقُهــــــــــــا

والماءُ يُغرقُهــــــــــــــــــا

 

والنارُ تُفنيهـــــــــــَـــــــا

 

حتى أن بعضهم دعا إلى حفظ العلم، واعتماد الذاكرة، بدل جمع الكتب متعللا بوجود هذه الأخطار فقال:

 

عَلَيْكَ بالْحِفْظِ دُونَ الجمْعِ فِي كُتُبٍ

 

فَـــإِنّ للْكُتْبِ آفَــــاتٌ تُفَـــرّقُـهَا

النَّــــارُ تُحرِقُــــها والمـــــــاءُ يُغرِقُهـــــا

 

والفَأرُ يخْرِقُها واللّصّ يَسْرِقُهَا

 

 بالإضافة إلى هذا كله يعتبر الجهل هو الطامة الكبرى في هذا الجانب لأن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه، وقد حكي لي ممن أثق به أن أحد العلماء قضى نحبه وترك حفيده قيما على مكتبة ضخمة من المخطوطات – وكان هذا الحفيد جاهلا- فكان يمزق كتب جده ويلفها قراطيس للنسوة يتبركن بها مقابل دريهمات معدودة حتى جاء عليها كلها، ولم يبق غير أسفارها على الرفوف، ومن صور التفريط في المخطوطات عند الخواص عدم الإحاطة بطرق حفظها أو بالأحرى عدم توفر ما يساعدهم على الحفظ العلمي لها، مما يؤدي إلى تلفها ولا زلنا نحتفظ بصورة نهاية مأساوية لأحدى المكتبات في غرداية[xii] عندما أغرقها طوفان 2008 م، وذهب بكل نفائسها.

هذا في صور التفريط أما صور الإفراط فكثيرة أيضا ومنها التشديد على تركات الأجداد وعدم إطلاع الباحثين عليها والبخل بها وربما تجد بعضهم يملك العديد من المخطوطات التي تساعد العلماء في توثيق الحقائق وفك الرموز والألغاز ولكنه يظل مُصرًّا على عدم إطلاع الناس عليها، وربما برر خوفه من أن هذه المخطوطات تتضمن حقائق قد تشعل فتنا، أو أن يحتج بعض هؤلاء بأنه قد أخرج بعض هذه المخطوطات فسرق منه بعضها، أو استغلت فاستفاد منها غيره على الصعيد المادي، وهذا كله في الحقيقة مما لا يكذبه فيه عاقل إلا أنه ليس مما يدعو في الحقيقة إلى أن يصر على البخل بإرث حضاري هو ملك للأمة جمعاء قبل أن يكون ملكا خاصا له.

 

حلول مقترحة:

إننا أمام هذه الوضعية المعقدة مطالبون بإيجاد الحلول المناسبة وذلك قصد تدارك ما يمكن تداركه من هذا الإرث الحضاري والتراث الوطني، ولعلني أقترح مجموعة من الحلول التي قد تساهم في حماية هذه الكنوز وتحصيلها: 

 

  1. عمل الدولة على شراء المخطوطات النادرة على الأقل، ممن يرغبون في بيعها وتحصيلها لفائدة الموروث القومي الوطني.
  2. تفعيل التصوير الرقمي للمخطوطات والوثائق النادرة والتشجيع عليه والعمل على فهرسة المكتبات الخاصة للمخطوطات.
  3. خلق فرص تكوينية حقيقية لأصحاب المكتبات الخاصة في مجال التصوير الرقمي والفهرسة وفي طرق المحافظة على المخطوط وحمايته.
  4. إصدار ميثاق واضح المعالم بالنسبة للممتلكات الثقافية والفنية.
  5. التكثيف من الملتقيات المعرفية حول المخطوط ونشر الوعي بأهمية التراث وواجب الحفاظ عليه.

 

إنني حاولت جاهدا أن أُلمّ ببعض واقع التراث المخطوط على المستوى الخاص وما يلقاه تراثنا المكتوب بين مد الإفراط وجزر التفريط وأملي أن يعد لنا الغد بوجه مشرق يحفظ مختلف أطياف التراث الإنساني وينقله إلى الأجيال القادمة بأمانة وصدق. 

الهوامش:

[i] - محمد التونجي، المعجم المفصل في الأدب، دار صادر، بيروت، لبنان، ط3، 2001، ج2، ص123.

[ii] - من الآية 48 من سورة العنكبوت.

[iii] - محيط المحيط، بطرس البستاني، مكتبة لبنان، بيروت\ن لبنان، ط10، 1988، ج1، ص 558.

[iv] - مجلة "ينابيع"، العدد 23 ، ربيع الأول 1429هـ، ص 119.

[v] - نفسه، ص121.

[vi] - محمد الحبيب التيجاني، شيخ التيجانية وابن الشيخ التيجاني، كان المشرف على قصر عين ماضي أثناء حصار الأمير عبد القادر لها سنة 1842 م.

[vii] - هنري تشرشل، حياة عبد القادر، تر: أبوالقاسم سعد الله ، الدار التونسية للنشر، ط1، 1982، ص118.

[viii] - سيدي محمد العربي بن عبد الله المكنى بن شاعة، أحد شرفاء الغرب الجزائري، من تلامذة الشيخ أحمد بن يوسف الملياني وخاصته، تشتهر زاويته إلى الآن حيث ضريحه بنواحي وادي الجمعة بغليزان.

[ix] - Le pays d'Abel: le Sahara des Ouled-Naïl, des Larbaâ et des Amour Émile Dermenghem Gallimard,     1960 217 pages

[x] - الشيخ امحمد بن يوسف اطفيش الشهير بقطب أئمة الاباضية من علماء بني يسقن ( تـ: 1914م) وكان غزير التأليف جمع مكتبة منقطعة النظير، افتتحها أحفاده للقراء لا تزال إلى الآن قبلة للباحثين.

[xi]- ينظر: عبد الله بن محمد العياشي المغربي، الرحلة العياشية، تح: سعي الفاضلي، وسليمان القرشي، دار السويدي، الامارات، ط1، 2006، ص 119.

[xii]- من مآسي العلم بغرداية غرق وتلف العديد من المكتبات الثرية بالمخطوطات منها مكتبة الشيخ أحمد بوعامر المالكي، كان من بين محتوياتها مخطوط نفيس للشيخ عبد الرحمن الثعالبي ضاع أثناء فيضان أكتوبر 2008.



Back to top