جماليات في المخطوط
مدخل تعريفي للخط العربي
مركز البحث في العلوم الاسلامية والحضارة – الأغواط
مقدمة:
يعتبر الخط العربي ملمحا حضاريا هاما في تاريخ أمة الاسلام، ولم تمر خلافة أو دولة اسلامية الا وكان لها من تجويد الكتابة نصيب، لذلك كان الاهتمام بفن الخط متصلا متنوعا، ربما بسبب موقف الدين من التصوير فكان الخط بمثابة البوتقة التي أفرغت فيها عبقرية الفنان المسلم، زيادة لاتصاله بالقرآن الكريم الذي هو كلام الله، فكانت مسحة الجلال والجمال سمة فارقة لهذا الفن، ومن خلال هذا البحث سنحاول تتبع مراحل تطور هذه ومدى اهتمام المسلمين بها.
أولا: نظريات حول نشأة الكتابة العربية
لقد تعددت النظريات التي تفسر نشأة الكتابة العربية، إلا أن الوصول إلى حقيقة مطلقة حول نشأتها كان صعب المنال من منطلق طبيعة المنطقة "شبه الجزيرة العربية"، ونزوع العرب إلى نقل أخبارهم وعلومهم-على بساطتها- مشافهة، مع انتفاء الحاجة إلى التدوين وفيما يلي سرد لأهم تلك النظريات:
نظرية التوقيف:([1])
ارتبطت هذه النظرية بالمصادر العربية القديمة، والتي تذهب إلى أن الكتابة الذي كتب بها العرب إنما هي "توقيفية" من الله عز وجل من جملة ما علمه الله لآدم فكتب به آدم الكتب المختلفة، فلما أظل الأرض الطوفان، ثم انجاب عنها الماء فأصاب كل قوم كتابهم، وكان الكتاب العربي لإسماعيل عليه السلام.
تعتبر النظرية التوقيفية من أولى نظريات أصل الكتابة العربية، إلا أنها تعاني من عدة ثغرات منها أنه لو كانت الكتابة العربية توقيفا من الله عز وجل، لاستقامت من أولها رسما واعجاما، فما كان مصدره الله عز وجل فإن النقص لا يصيبه، ولا يحتاج لاجتهاد البشر ليتطور ويتحسن عبر الزمن وهذه سمة من سمات الكتابة العربية، ثانيا أن إسماعيل –عليه السلام- أبو العرب المستعربة إنما تكلم العربية بتعلمه لها من العرب العاربة ثم تعلمها عنه بنوه، أي أن أصل اللغة العربية كان قبل إسماعيل عليه السلام، ويشير ابن خلدون في مقدمته إلى صناعة الخط إنما هي جملة من الصنائع التي يختص بها الحضر دونا عن البدو الذين تتقدم عندهم الكتابة ولا يصيبونها إلا مقيمين في المدينة أو على تخومها "وعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطلب لذلك تكون جودة الخط في المدينة"([2])، لذلك فان قبيلة مثل قبيلة جرهم التي أخذ عنها إسماعيل لغته كانت تعيش حياة البادية وكل ما ينجر عنها من خشونة العيش فلا يجتمع فن وفقر لأبسط متطلبات العيش.
النظرية الجنوبية "الحميرية":
ومن بين ما شاع بين العرب أن كتابتهم مشتقة من "المسند" الحميري، دون دليل يستند إليه، ومرجع هذه النظرية إلى أن اليمن في وقت ما قد فرضت سلطانها على بعض الأمم العربية الشمالية في حكم دولتي سبأ وحِميَر في القرنين الأول والثاني قبل الميلاد فكان فرض ثقافتها على العرب حتميا، كذلك قد يكون منشأ هذا الاعتقاد، أن مؤسسي الدولة السبئية في اليمن أصلهم من إقليم الجوف في شمال نجد والحجاز، وهو الإقليم الذي كان يعرفه الأشوريون باسم "عريبــى" وكانت تحكمه ملكات من بينهن ملكة سبأ، لذا فانه لا يستبعد أن تكون هذه العلاقات السياسية وعلاقات الهجرة بين جنوبي بلاد العرب وشمالها سببا في تفشي هذا الاعتقاد، غير أن النقوش الحميرية الجنوبية المكتشفة في اليمن والنقوش العربية الأولى وجود أية علاقة بينهما([3]).
النظرية الشمالية "الحيرية"([4]):
أتى ذكر هذه النظرية من عدد من المؤرخين العرب، على رأسهم "البلاذري" و الذي في رواية له عن عباس بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن جده وعن الشرقي القطامي أن ثلاثة من "طيء" اجتمعوا في "بقة" هم مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية فتعلم منهم قوم من أهل الأنبار ثم تعلم عن هؤلاء نفر من أهل الحيرة ،وكان "بشر بن عبد الملك" الكندي أخو "الأكيدر" صاحب دومة الجندل يأتي الحيرة فيقيم بها الحين فتعلم الخط العربي من أهلها ، ثم أتى مكة في بعض شأنه، فرآه سفيان بن أمية بن عبد شمس، وأبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يعلمهما الخط ففعل وعلمهما الهجاء ثم أراهما الخط فكتب ثم أتى بشر و أبو قيس الطائف في تجارة يصاحبهما غيلان بن سلمة الثقفي، وكان قد تعلم الخط منهما ، فتعلم الخط فيهم نفر من أهل الطائف ثم إن بشر مضى إلى ديار مضر ورحل إلى ديار الشام تعلم فيها أناس كثر ،وهكذا عرف الخط و انتشر بتأثير الطائين الثلاثة وبشرفي العراق و الحجاز وديار مصر و الشام.
من الواضح أن هذه النظرية تحاول تفسير كيف انتقلت الكتابة من الحيرة إلى الحجاز و يستساغ أن تكون الحيرة مركزا من مراكز تعليم الكتابة في وقت ما، لكن غير المستساغ كما يقول الدكتور إبراهيم جمعة "لماذا يناط انتقال الكتابة العربية بشخصية "بشر بن عبد الملك" الكندي الذي تجعل منه الرواية جائلا كلف نفسه مشقة الانتقال إلى أرجاء مترامية من شبه الجزيرة العربية يعلم الخط وهو ذلك الارستقراطي المترف الذي من المستبعد أن يجول لهذا الغرض([5]).
ضف إلى ذلك فإن انتقال ظاهرة ثقافية كظاهرة الكتابة ليس بالسهولة التي نتمكن من خلالها تحديد من قاموا بنقلها من منطلق أن هذه الأخيرة حالها كحال أي ظاهرة اجتماعية تلقى صعوبة في انتشارها في بادئ الأمر خاصة إذا علمنا طبيعة الحالة المعيشة للعرب في شبه الجزيرة العربية التي تنزع أكثر للخشونة التي تفرضها البيئة الصحراوية حتى المناطق الحضرية وفي رواية أخرى لابن النديم فإنه يقر بأن الكتابة وصلت رحلتها من الحيرة إلى الحجاز في خواتم القرن الخامس الميلادي إلا أنه لا يذكر اسم "بشر بن عبد الملك" في روايته بل يأتي على ذكر شخصية أخرى هي "أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب" ويضيف إليها اسم "حرب بن أمية" وينسب إلى واحد منهما نقل الكتابة من الحيرة إلى الحجاز، إن هذا التضارب بين الروايتين لا يفسره إلا القول بأن رحلة الأعراب من شبه الجزيرة إلى وادي الفرات و العكس بقصد تبادل المنافع كانت سببا في انتقال الكتابة إلى الحجاز.
النظرية الحديثة:
يكاد يكون هناك شبه اتفاق على أن العرب لم يصبوا دراية بالكتاب إلا حيث كان لهم بالمدينة اتصال وقد كان اتصال العرب بالمدينة نتيجة لانتجاعهم تلك الأطراف الغنية المحيطة بشبه الجزيرة في البحث وادي الفرات الأوسط وسوريا ونجوع النبط وحوران، في هذه التخوم خرجت بعض القبائل العربية عن طبيعتها البدوية وعرفت نوعا من الاستقرار وأخلدت إلى حياة جديدة واتخذت أساليب الحضر في كثير من طرائق المعيشة ومظاهر العمران، وكان أكثرها تحضرا ما نزل منها على تخوم الشام لطول عهدها بحضارة الرومان. وعظم شأن هذه القبائل شيئا فشيئا كما يؤكده صاحب المقدمة حين يقول"...فصار طول الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة، كضرورة تبعية الرفه للملك"([6])، فتكونت وحدات عربية سياسية أهمها الاباجرة في "أذاسا" والأرزاس في "البتراء" و"تدمر"، وعرفت مملكة هؤلاء الارزاس باسم مملكة النبط، ونشير هنا إلى أن عرب النبط لأغاروا أول أمرهم على أقاليم "آرامية" وتحضروا بحضارتها واشتقوا لأنفسهم خطا من خطوطهم كتبوا به، وان يكونوا قد احتفظوا بلغتهم العربية التي ظلوا يستعملونها في شؤونهم الخاصة وأحاديثهم اليومية.
لذلك فان هؤلاء اشتقوا خطا من الخط الآرامي وهي الكتابة التي عرفت بالكتابة النبطية، والتي مرت في ثلاث مراحل هي:
المرحلة الأولى"الآرامية" وفيها كتبوا بالحروف الآرامية التي تميل إلى التربيع، ومن سلالتها التدمرية والعبرية.
المرحلة الثانية مرحلة انتقال من الخط الآرامي المربع إلى الخط النبطي.
المرحلة الثالثة مرحلة نضوج انتهى فيها الخط النبطي إلى صورته المعروفة التي تميل إلى الاستدارة رغم ما يبدو فيه من نزوع إلى التربيع.
وقد أثبت البحث العلمي أن العرب الشماليين اشتقوا خطهم من آخر صورة من خطوط النبط، فكما استعار النبط خطهم من الآراميين فقد استعار العرب خطهم من الأنباط، والكتابة العربية في صورتها الأولى لا تبتعد كثيرا عن كتابة الأنباط.
وبالتالي فانه من المرجح أن الكتابة العربية قد وجدت سبيلها إلى بلاد العرب بسلوك أحد طريقين أولهما الطريق الدائر من "حوران" إحدى ربوع النبط إلى وادي الفرات الأوسط حيث الحيرة و الأنبار، ثم إلى دومة الجندل فالمدينة ومنها إلى مكة والطائف، والثاني طريق أقصر، من ديار النبط إلى "البتراء" إلى "العلا" فشمال الحجاز إلى المدينة ومكة.
وسواء كانت رحلة الكتابة من هذا الطريق أو ذاك، فالثابت أنها تمت بين منتصف القرن الثالث الميلادي ونهاية القرن السادس، وهو الوقت الذي تحولت فيه الكتابة العربية من صورتها النبطية إلى صورتها التي نعرفها في وقتنا الحالي.
ثانيا: القرآن الكريم والكتابة العربية
تعتبر بداية الرسالة المحمدية مرحلة من أهم المراحل في تطور الكتابة العربية، فإذا كانت الكتابة في مراحل سابقة تعبر عن حجات اجتماعية ثقافية تجسدها حياة الحضر، فإنها ببداية رسالة الإسلام أصبحت تعبر عن حاجة روحية، تدفع بالإنسان المسلم إلى نيل رضا الله عز وجل من خلال خدمة المصحف الشريف، فالقراءة والكتابة ستصبح الصبغة التي ستصطبغ بها أمة الإسلام، وقد تجلى هذا في أول آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم "اقرأ باسم ربك الذي خلق"([7])وقوله أيضا "ن والقلم وما يسطرون"([8]) وقول النبي صلى الله عليه وسلم"إن الله جميل يحب الجمال" وفيه يدخل بطريق العموم الجمال من كل شيء([9])، هذا الجمال الذي حاول الفنان المسلم تجسيده، ظهر جليا في تطور الكتابة العربية وتحولها إلى فن من أعظم الفنون التي عرفتها الإنسانية.
لقد كانت بداية تدوين الوحي منذ عهد النبوة فها هو النبي صلى الله عليه وسلم من "يتخذ الكتبة يدونون الوحي بين يديه، وتنافس الصحابة في كتابة القرآن وعدوا ذلك شرفا، وإتباعا لأوامر الله يرجون بذلك ثواب الله ويبتغون فضله ورضوانه"([10]).
تدوين القرآن في زمن النبوة:
روي عن زيد بن ثابت أنه قال "قبض النبي ولم يكن القرآن قد جمع في شيء" الا أنه قد دون كله في زمنه، فقد كان يأمر كتابه بتدوينه عند نزوله في الأكتاف والأضلاع والرقاع والعسب واللخاف*، ومن كتاب الوحي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين.
الجمع البكري:
كان تدوين الصحف وجمعها بطلب من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعد حروب الردة والتي استشهد
فيها عدد كبير من حفظة القرآن، مخافة من ضياعه بذهاب حفظنه، فاستجاب الخليفة أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- لطلب عمر وكلف زيد بن ثابت وعمر بجمعه، ودام ذلك مدة تقل عن السنتين، وتسميته بالمصحف كانت في زمن الصديق فقد روي عن ابن شهاب أنه قال "لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر التمسوا له اسما فقال بعضهم السفر، وقال بعضهم المصحف، فان الحبشة يسمونه بالمصحف"[11]
الجمع العثماني:
لقد كان لاتساع رقعة الإسلام تأثيرا على قراءة القرآن بسبب دخول الأعاجم والفرس في الدين الإسلامي فلما بلغ ذلك الخليفة عثمان رضي الله عنه فأرسل إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها "أرسلي الينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك" فأرسلت إليه بالصحف، وأرسل الى زيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام، وقال للنفر القرشيين "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه على لسان قريش فإنما نزل بلسان قريش"[12] فكان الجمع العثماني جمع الناس على قراءة واحدة وحرف واحد، فان الاختلاف في القراءة والذهاب بها مذاهب شتى يوشك أن يصل الى صميم الآيات نفسها، فكان ذلك من أكبر مناقب الخلفاء، ارتضاه الصحابة وتقبله عامة المسلمين. ان نظرة التقديس التي نظر بها المسلمون للكتابة العربية لارتباطها بالقرآن الكريم سيكون لها لاحقا تأثيرا كبيرا في تبوء الكتابة العربية مكان الفن الراقي الذي لا يضاهيه فن، ونستطيع القول أن ارهاصات هذا الفن فعلا قد بدأت مع كتابة المصاحف التي أمر الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بكتابتها، فلا غرابة في أن ازدهار الكتابة العربية والتفنن في كتابة المصاحف سيسيران جنبا الى جنب عبر العصور الاسلامية اللاحقة.
ضبط الكتابة العربية بالنقط والشكل:
كان القرآن الكريم معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن بين أوجه الإعجاز لغة القرآن التي خوطب بها قوم تمكنوا من اللغة وتشربوها حتى النخاع ، فملكوا زمامها وتكلموها صحيحة والسليقة والطبع فعرفوا أن لغة القرآن لا ينبغي لبشر أو جن أن يأتوا بمثلها ولو اجتمعوا على ذلك، ولما كانت رسالة الإسلام إلى الناس كافة ، فكان اختلاط العرب بالأعاجم فظهر اللحن في اللغة العربية ومن ثم إلى القرآن الكريم
فكان في هذا الامر مدعاة الى وضع النحو الذي تصدى له ابو الاسود الدؤلي بتكليف من زياد امير العراق عام 67هــ 676م واستعان الدؤلي في ذلك بعلامات كانت عند السريان يدلون بها على الرفع والنصب والجر ، ويميزون بها بين الاسم والفعل والرف ، وكانت طريقته في شكل اواخر الكلمات ان استحضر كاتبا وامره ان يتناول المصحف ، وان يأخذ صبغا يخالف لون المداد فاذا راى الكاتب ابا الاسود الدؤلي قد فتح شفتيه على اخر حرف ، نقط نقطة واحدة فوق الحرف فيكون هذا هو الفتح ، واذا خفض شفتيه عند اخر الحرف نقط نقطة واحدة تحت الحرف ويكون هذا هو الكسر ، فاذا ضم شفتيه جعل الكاتب النقطة بين يدي الحرف وأمامه فيكون هذا هو الضم فان تبع الحرف الأخير ــــــــ نقط الكاتب نقطتين احداهما فوق الاخرى وهذا هو التنوين كانت هذه اول اضافة للغة العربية بقصد ضبطها
أما الإصلاح الثاني فالمتعارف عليه انه قد أجرى في خلافة عبد الملك بن مروان عندما كثر التصحيف في القران ، فنبه الحجاج بن يوسف الثقفي لذلك وكان منه أن كلف كتابه بوضع علامات لهذه الحروف المتشابهة في الرسم تميزها عن بعضها البعض فوضع يحي بن يعمر ونصر بن عاصم الاعجام بمعنى النقط ونقطت الحروف بنفس مداد الكتابة ، لان نقط الحرف جزء منه
أما الإصلاح الأخير فكان في العهد العباسي الأول حين قام الخليل بن احمد الفراهيدي بمهمة إبدال نقط أبي الأسود الدؤلي للدلالة على الحركات الإعرابية بجرات علوية وسفلية للدلالة الفتح والكسر وبراس واو للدلالة على الضم الى غير ذلك من الحركات المعروفة في الكتابة في وقتنا الحالي
وغدا بعد هذا الاصطلاح ان يجمع الكاتب بين شكل الكتاب ونقطه بلون واحد دون لبس
وقد تعارضت آراء العرب حول هذا الاعجام بين مؤيد ومعارض ومن طريف القول أبيات رد بها أبو نواس على كتاب جاءه وقد شكله كاتبه فقال:
يا كاتبا كتب الغداة يسبني من ذا يطيق يراعه الكتاب
لم ترض بالإعجام حين كتبته حتى شكلت عليه بالإعراب
أحسست سوء الفهم حين فعلته أم لم تثق بي في قراة كتاب
لو كنت قطعت الحروف فهمتها من غير وصلكهن بالأنساب
ومنهم من رغب في الشكل فقال أشكلوا قرائن الآداب ، لئلا تند عن الصواب، وقولهم اعجام الكتب يمنع استعجامها وشكلها يصون عن إشكالها.
وهنا يتم إسدال الستار عن المرحلة الأولى من تجويد فن الخط من خلال ضبطه رسما واعجاما وشكلا، أي أن الصورة النهائية للكتابة العربية قد رست قواعدها من حيث الهيكل إن صح لنا استعمال هذا المصطلح بمعنى آخر إن اللبنات الأساسية قد وضعت مكانها، لتفتح مرحلة جديدة هي مرحلة التجويد الفني الجمالي الذي سطر من خلاله خطاطون لوحات فنية غاية في الجمال تجعل من ملوك أوربا يسحرون بجمالها فيتخذونها زخرفة لقصورهم وملابسهم وحتى كنائسهم.
هنا لابد من الإشارة إلى ثلاثة خطاطين أصيلين في إبداعهم الذي كان نقطة بداية لجميع الخطاطين الذين جاؤا بعدهم.
ثالثا: المؤسسون الأوائل
ابن مقلة: الوزير الخطاط 272هـ 886 م- 328هـ 940 م
ولد أبو على محمد بن علي بن الحسين ابن مقلة لتسع بقين من شوال سنة اثنتين وسبعين ومائتين ببغداد، وقد ولي أول أمره بعض أعمال فارس، ثم وزيرا للمقتدر سنة ست عشرة وثلاثمائة، ثم قبض عليه المقتدر وصادره وحبسه عامين، ثم وزيرا بعد ذلك للقاهر والراضي([13]) وتنقلت به أحوال ومحن أدت إلى قطع يده ، و من نكد الدهر أن مثل تلك اليد النفيسة تقطع.
يقول ثابت بن سنان " أمرني الراضي بالله بالدخول إلى بن مقلة آخر اليوم الذي قطعت فيه يده فدخلت إليه فعالجته و سألني عن خبر ابنه الحسين فعرفته خبر سلامته فسكن إلى ذلك غاية السكون ، ثم ناح على نفسه وبكى على يده وقال : يد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات ،وكتبت بها القرآن دفعتين تقطع كما أيدي اللصوص ؟"
ولم يتوقفوا عند هذا الحد بل قطعوا لسانه، وأصابه في سجنه ذرب ، ولم يكن له من يعالجه ويخدمه ولحقه شقاء شديد إلى أن مات .
أم عن خطه فقد كان يكتب خطا جيدا حتى بعد قطع يده أما بيده اليسرى أو بشد قلم إلى ساعده الأيمن ، وروى القلقشندي قوله عن أبن مقلة وأخيه أبي عبد الله وولدا طريقة اختراعاها وكتب في زمانهما جماعة فلم يقاربوهما ، وكان الكمال للوزير أبي علي فهو الذي هندس الحروف ، وأجاد تحريرها وعنه انتشر الخط في مشارق الأرض و مغاربها وقد شهد له غير العرب في تفرده بحسن الخط وجودته ، ويقول الثعالبي " أنه كتب كتاب هدفه بين المسلمين و الروم بخطه فهو إلى اليوم في كنيسة قسطنطينية يزورونه في الأعياد ويعجبون من فرط حسنه و كونه غاية في فنه "
وقد أنشد أبو الحسين ابن طفيل بن عطية قائلا " *
خط بن مقلة من أرعاه مقلته ودت جوراحه لو أنها مقل
ولعل أبلغ مدح قيل فيه ما سمعه التوحيدي حين سأل أبا عبد الله بن زنجي : ما تقول في خط بن مقلة قال: ذاك نبي فيه أفرغ الخط في يده كما أوحي إلى النحل في تسديس بيوته.
ابن البواب: الخطاط الواعظ 391/1000م
هو أبو الحسن علي ابن هلال المعروف بابن البواب كان أول عهده مزوقا يصور الدور ، ثم صور الكتب ثم تعلم الكتاب فبز فيه أقرانه ، وكان يعظ بجامع المنصور وكان أستاذه في الخط محمد أسد ن وقد كان ابن النواب على ثقافة واسعة فقد قرأ القران وحفظه ، وسمع الحديث وتفقه في الدين و درس العربية فأجاد النثر ونظم الشعر ، وقد كان انتسابه إلى لقب أبيه سبة له عند حاسديه وكان يعير به ، ولكن ذلك لم يمنعه من اكتساب الفضائل و التفوق في مجال الآداب و الفنون فقد كان ذا أثر بعيد في فن الخط وشهرة واسعة في عصره وذكر حسن بعد وفاته ، وإذا كان ابن مقلة قد هندس الخطوط اللينة ووضع قواعدها ، ونسبها الجمالية ، فإن ابن البواب بعده قد كسى هياكل الخطوط حللها الجميلة ، وقلدها حليها الغالية ، فترقت الكتابة منذ عصره إلى مراتب الكمال وجمعت بين توازن الوضع والشكل الذي سبق أن أتى به أبن مقلة ، وحسن التنسيق و التجميل التي تعهد بها الكتابة أبن البواب
ياقوت المستعصمي الخطاط الأديب 685/1286
هو جمال الدين المستعصي الكاتب الأديب البغدادي آخر من انتهت إليه رياسة الخط كان يكتب على طريقة ابن البواب وهو من مماليك المستعصي أمير المؤمين
لقد ظهر ياقوت بعد الستمائة هجرية 1203م يرجع بعضهم نسبة إلى أماسيا في آسيا الصغرى، ويقول بعضهم أنه كون نفسه بتقليد خطوط ابن البواب وذكر أنه نسخ القرآن الكريم ألف مرة ولقب بقبلة الكتاب وقد خلد ذكره القطة العلم المحرفة التي ابتدعها والتي لم تتغير حتى الآن ، يقول عنه الشيخ عبد القادر إن في يده سرا من أسرار الله * توفي عن أربع وثمانين عاما ودفن في المسجد الذي زينه بخطوطه و اللوحات التي خطها بيده.
الأتراك والوصول بفن الخط إلى القمة:
إذا كان العصر العباسي عصر ازدهار في شتى الآداب و العلوم و الفنون، التي جعلت من اللغة العربية لغة علم لم يتنافس على إتقانها العرب وحسب بل تنافس في إتقانها ملوك أوروبا واستأثروا بها دون عن عامة الناس، فكانت مظهرا من مظاهر الثقافة و العلم، ونستطيع القول أن التطور البطيء لفن الخط حتى نهاية العصر العباسي قد يعزى إلى تعدد الفنون و الآداب و اشتغال بالفلسفة وعلم الكلام و العلوم الشرعية من فقه وأصوله إلى علم حديث وتفسير إلى غير ذلك من العلوم، أي أن الخط كان فنا هاما من جملة فنون وعلوم أخرى لا تقل عنه أهمية، لذلك كان لقيام الدولة العثمانية أثرا بالغا في تطور الخط لا تضاهيه العصور السابقة فالأتراك قوم عجم لا يتقنون اللغة العربية وليس لهم بالعلوم التي ازدهرت عند العرب اتصال، غير أن تمسكهم بالدين الإسلامي وحبهم للقرآن الكريم جعلهم يعملون على تجويد كتابته العربية، التي وإن حصل لها اغتراب معنى عندهم، فلا أقل من أن لا ينفي عندهم اغتراب صورة، صورة المعنى المجردة، فعملوا على تجويد الخط أيما تجويد فظهرت عندهم أنواع الخط كالخط الديواني وخط الرقعة وجودوا خط المحقق وخط الريحان، وأبدعوا في خط الثلث وخط النسخ أيما إبداع. ويقال أن تاريخهم يحصي أكثر من ألف خطاط، من أشهرهم حمد الله الأماسي و الحافظ عثمان، ومصطفى الراقم، وإسماعيل الزهدي ومحمد سامي أفندي ، ومحمد شوقي أفندي، وهنا نشير إلى أن انجازات الخطاطين العثمانيين لابد لها من دراسة تختص بهم وحدهم قد يتم التطرق لها في بحوث قادمة إن شاء الله.
[1] إبراهيم جمعة: قصة الكتابة العربية، دار المعارف مصر، ط 2، مصر، ب س، ص7.
[2] ابن خلدون: المقدمة
[3] إبراهيم جمعة: مرجع سبق ذكره، ص 10.
[4] المرجع نفسه، ص
[5] المرجع نفسه، ص 13.
[6] ابن خلدون: مرجع سبق ذكره، ص304.
[7] سورة العلق/1.
[8] سورة القلم/1
[9] ابن قيم الجوزية: الفوائد، دار الهدى، عبن مليلة، الجزائر، ب س، ص 221.
[10] محمد بن سعيد شريفي: خطوط المصاحف، ص 16.
* العسب: جمع عسب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون على الطرف العريض
اللخاف: جمع لخفة وهي الحجارة الدقاق.
[11] السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ص 57.
[12] محمد بن سعيد شريفي: مرجع سبق ذكره، ص 17.
[13] محمد بن سعيد شريفي: مرجع سبق ذكره، ص 68.